يسألونك عن النجاح، قل إن واحدًا من مظاهره أن تكون صاحب قدرة على المبادرة والإتيان بما هو مؤثر وجديد، وأن تسير وراء حلمك مهما واجهك من عنت أو صادفت من عناء حتى تراه متحققا على أرض الواقع، وقد تابعت منذ سنوات حلم الفنان الكبير على الحجار بإحياء مجد الغناء العربي الأصيل من خلال مشروعه العملاق 100 سنة غناء»، وأعلم - كما يعلم غيرى - كم العراقيل التي وضعت في طريق هذا المشروع، لكن «الحجار» كان صبورا حمولاً متسلحا بدأب وإصرار رهيبين فى سبيل تحقيق حلمه الذي انتظره طويلا.
وها هو الفنان الكبير يقدم على مسرح دار الأوبرا المصرية قبل أيام الليلة الخامسة فى هذا المشروع الضخم، ليلة الموسيقار الأصيل فريد الأطرش، أحد أعلام الموسيقى الشرقية المعاصرة، وصاحب الإسهامات البارزة التى لا يستطيع أحد إنكارها أو التقليل منها، وإذا كان «الحجار» يحمل عبر حنجرته الاستثنائية تاريخا طويلا من الغناء يقترب من نصف قرن، فإن هذا التاريخ الحافل بالنجاحات سوف يُضاف إليه أنه لم يكتفِ -مثل غيره- بأن يكون مطربا وفقط، وإنما كان كذلك صاحب مشروع مهم ومبادرة حقيقية فى إعادة صياغة تراثنا الغنائي بأسلوب يمكن أن تستسيغه الأجيال الحالية بدلا من أن نترك آذانهم وأذواقهم للشاكوش والولعة وصاصا، ومَن على شاكلتهم من أساطين أغنية المهرجانات.
وقد أسعدنى كثيرا النجاح اللافت الذى حققته ليلة فريد الأطرش فى دار الأوبرا المصرية، وردود الفعل المرحبة بكل ما قدمه الحجار وضيوف حفله من الأصوات الغنائية الشابة، كما تابعت أيضا بكل دهشة بعض التعليقات النشاز التى خرجت عن تناغم الإطراء الرائع على ما قدمه المبدع على الحجار، وآلمتنى كثيرا هذه الروح المتربصة التى باتت تسيطر على جمهور وسائل التواصل الاجتماعى، وحالة الاستمتاع المرضى بالهجوم على الآخرين وسطوة سياسة القطيع التى تجتاح صفحات «السوشيال ميديا»، وهو أمر أظنه بحاجة إلى دراسات نفسية واجتماعية تفسر لنا لماذا وصلنا إلى تلك الحالة الفيسبوكية من التصيد والتربص والتحفز والتنمر والتلذذ بالنيل من الآخرين دون أن ينظروا أبعد من مجرد إشباع هوس الكتابة والسلام، إن صوت على الحجار وبعد خمسين عاما من الغناء والطرب ليس بحاجة إلى تقييم هؤلاء أو غيرهم، ولن تضيف له أو تنقص منه تلك الآراء غير الواعية أو الدارسة أو العارفة بأصول الغناء، على الحجار هو -بكل تأكيد- أعظم مطربى
جيله، وأقواهم صوتا، وأفضلهم قدرة على التطريب والغناء السليم ولم لا؟، وهو ابن بيت طربى أصيل، ربه الأكبر هو معلم غالبية الأصوات التي ظهرت على الساحة خلال العقود الأخيرة الفنان الراحل إبراهيم الحجار؟ ثم إن «الحجار» الابن كان، ولا يزال، أكثر أصوات جيله والأجيال التي ظهرت بعده وعيا في اختيار كلمات وأفكار أغنياته، رافضا مسايرة كل الموجات السلبية التي عرفها فن الغناء، غير مستسلم لمتطلبات السوق وتنازلاته، فبقى هو ومحمد منير صاحبي حضور مختلف وذائقة موسيقية لا تشبه أحدا.
اللافت أيضا فى مشروع على الحجار أنه وهو يعيد صياغة تراثنا الغنائي بأسلوب عصرى يقدم للأذن العربية مجموعة من الأصوات الشابة ينتظرها مستقبل باهر إن أحسن تبنيها وتوجيهها، وبدلا من أن يشكره على هذا كله جلادو لوحات المفاتيح راحوا عن سوء نية أو جهل يبحثون عن النواقص والسلبيات دون فهم أو دراية، فيا عزیزي على الحجار، استمر في تحقيق حلمك واستكمال مشروعك، ونحن فى انتظار الليلة السادسة، ولا تلق بالا بهذه القلة واهنأ بآراء الغالبية العظمى التي أسعدتها وسوف تسعدها في الليالى الغنائية القادمة، فقط أريد أن أهمس في أذنك بأنني سمعتك تردد أن فريد الأطرش من مواليد عام 1917 ، وهذا غير صحيح بالمرة، حتى لو قال فريد الأطرش هذا التاريخ بصوته، فهو كحال غيره من النجوم الذين يريدون دائما التشبث بمرحلة الشباب بتقليل أعمارهم بعض السنوات، وهو أمر اعتدت أنا شخصيا عليه وأنا أؤرخ لسير عمالقة الفن، فالثابت تاريخيا أن شقيقته آمال الأطرش أو المطربة أسمهان هي التي ولدت في تلك السنة وأنهم أي أسرة فريد ووفق ما جاء في مذكراته - وقت أن جاءوا إلى مصر فرارا من بطش الاحتلال الفرنسي لجبل الدروز في حدود عام 1923 أو 1924 كانت أسمهان دون سن المدرسة بينما التحق هو وشقيقه الأكبر فؤاد بمدرسة الفرير بحى الخرنفش تحت اسم «آل كوسة» على سبيل التنكر أو التخفى عن أعين ملاحقيهم، وعليه فليس من المنطق أو العقل أن تحمل السيدة علياء المنذر وتلد كلا من فريد وأسمهان في عام واحد، أما تاريخ ميلاد فريد نفسه فليس عليه اتفاق واضح، ويتراوح بين أعوام 1909 و 1915، لأن قاطني السويداء في جبل الدروز لم يكونوا حتى تلك الفترة قد عرفوا التسجيل الدقيق للمواليد.
كل الشكر والتقدير للفنان الحقيقي على الحجار الذي كان يحتفل في تلك الليلة، ليلة فريد الأطرش بعيد ميلاده الحادي والسبعين، وكل عام وهو يمتعنا بعظيم فنه وجزيل عطائه فنانا أصيلا صاحب رسالة نبيلة وتاريخ كبير.
