بجذورها الضاربة فى عمق التاريخ وموقعها المتميز وصدق انتماء أبنائها، وإلى جانب إيران والصين كانت مصر واحدة من ثلاث دول فقط احتفظت بحدودها منذ نشأتها حتى الآن وامتلكت واحدةً من أقدم الحضارات وأكثرها تأثيرًا على البشرية، وظلت آثارها باقية كشاهد لها، هكذا ارتبط اسم مصر بالخلود وباتت من أغنى الدول تراثيًا وثقافيًا وواحدة من أهم المقاصد السياحية حول العالم.
على بعد أيام معدودة يقف أبناء مصر وعشاق حضارتها حول العالم فى انتظار هديتهم من مصر متمثلة فى المتحف المصرى الكبير الذى يُعد الأكبر من نوعه فى العالم وهرم الجمهورية الجديدة، فقد عادت مصر من جديد لإبهار العالم بطفرة ملحوظة فى كل القطاعات وخاصة قطاع السياحة لإعادة مصر إلى مكانتها المستحقة بين أهم الوجهات السياحية حول العالم بتطوير شامل لمواقعها التراثية والسياحية ومتاحفها المختلفة وافتتاح متاحف جديدة بما يحقق أهداف التنمية المستدامة داخل القطاع ويتوافق مع روية الدولة المصرية 2030.
فى السياق ذاته يتطلب تحقيق السياحة المستدامة العديد من الممارسات والسياسات التى تلبى احتياجات الزوار بكل فئاتهم وتضمن لهم تجربة ممتعة والارتقاء بالوجهة السياحية وتعزيز قدرتها على التأثير الإيجابى على محيطها البيئى والاجتماعى دون المساس بحقوق الأجيال القادمة أو التأثير السلبى على هوية سكانها.
لذا يمثل افتتاح المتحف المصرى الكبير إضافة كبيرة للقطاع السياحى والاقتصاد المصرى، ونقلة نوعية فى متاحف القرن الحادى والعشرين والمتاحف بشكل عام والمشروع الثقافى الحضارى الأكبر فى العالم، محققًا التوازن بين الحفاظ على التراث الثقافى وعرضه بما يضمن وصوله للأجيال القادمة من ناحية وبين تلبية احتياجات التنمية المستدامة بركائزها البيئية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية من ناحيه أخرى.
ومن الناحية الثقافية فإن المتحف يقدم تجربةً فريدةً فى كيفية نقل وتخزين وتسجيل وترميم وعرض القطع الأثرية باستخدام أحدث الأدوات والتقنيات التكنولوجية الحديثة بما فى ذلك الرقمنة والواقع الافتراضى والعنصر البشرى المدرب بما يخدم الهدف الأساسى للمتحف فى حفظ التراث وضمان إتاحته للأجيال القادمة.
أما عن البنية التحتية الثقافية فيوفر المتحف تجربة رائعة من خلال تواجد مجموعة من الخدمات الثقافية مجتمعة فى محيط المتحف مثل مركز الترميم بما يمتلك من أدوات ومعامل وخبرات بشرية جعلته من بين الأفضل فى العالم؛ حيث تم ترميم وتنظيف وتجهيز القطع الأثرية للعرض. بالإضافة إلى مكتبة المتحف الضخمة ومركز خدمات الدارسين والمركز العلمى وقاعات الفنون وقاعات العرض المؤقت ومتحف الطفل، بالإضافة لتنظيم المتحف للعديد من الأنشطة الثقافية والترفيهية والتعليمية التفاعلية بما يخلق تجربة رائعة للزائر وترويجًا للثقافة المصرية وخلق مشاركة اجتماعية حقيقية وروابط وثيقة بين المتحف وجمهوره وتعزيز الوعى الثقافى إلى جانب خلق فرص للتعاون الدولى والتبادل الثقافى بين المتحف والمؤسسات العلمية والبحثية حول العالم، وكل ذلك فى ظل الأمان المالى وتنوع الموارد المالية للمتحف.
أما من الناحية الاجتماعية فإن المتحف جزء من محيطه يؤثر فيه ويتأثر به، لذلك يحرص المتحف على أن يكون التأثير إيجابيًا إلى أبعد الحدود، سواء بخدماته الداخلية أو مساهماته الخارجية، فقد تم تطوير المنطقة المحيطة للمتحف والارتقاء بالخدمات والمرافق الموجودة وتنويعها وبوجود مطار سفنكس على بعد بضعة كيلومترات وقرب الانتهاء من الخط الرابع للمترو والتطوير الشامل للطرق المؤدية للمتحف وتحقيق وصول سهل للزوار بوسائل نقل جماعيه مستدامة مختلفة مما يعظم من مكانة المتحف عند رواده وعند سكان المنطقة المحيطة أيضًا، بالإضافة لتوفير فرص عمل وخلق فرص جديدة للتبادل الثقافى والارتقاء بالحرف والمشاركة فى الأنشطة الثقافية، بالإضافة للبرامج التعليمية والثقافية والتدريبية الخارجية التى يستهدف بها المتحف الطبقات والمراحل العمرية والتعليمية المختلفة خارج محيط المتحف مع العمل على خلق هوية بصرية للمتحف من خلال تطوير بعض وجهات المبانى والميادين المحيطة، مما يرفع من القيمة التسويقية للمبانى والمحلات، وبالتالى المستوى المعيشى لسكان المنطقة والمستثمرين فيها.
بالإضافة لحرص المتحف على الارتقاء بالعنصر البشرى والموظفين من خلال دورات علمية ومهنية وتدريبية وإعداد الكوادر والارتقاء بالمستوى المعيشى لهم، بالإضافة لاهتمام المتحف بالتجربة الداخلية للزائر وخاصة أصحاب القدرات الخاصة بتوفير منحدرات وطرق كتابة للمعلومات الأثرية والإرشادية ومصاعد كهربائية وعناصر بشرية مدربة يمكن الاعتماد عليها فى إنجاح التجربة.
ومن الناحية البيئية فإلى جانب موقع المتحف النموذجى بعيدًا عن التكتل السكانى فقد نجح المتحف فى تحقيق عناصر أساسية تجعله متحفًا أخضر مستدامًا وصديقًا للبيئة كالاعتماد بشكل كبير على الطاقة الشمسية النظيفة كمصدر للطاقة والإضاءة وأنظمة التهوية الطبيعية والمساحات الخضراء التى تغطى جزءًا كبيرًا من المساحة الخارجية للمتحف والاعتماد على طرق رى حديثة لتوفير الاستهلاك الرشيد للمياه وإعادة تدوير المياه والمخلفات واستخدام وسائل نقل صديقة للبيئة مما يساهم بشكل كبير فى تقليل البصمة الكربونية للمتحف، وفى ذلك الصدد فقد حصل المتحف على جوائز وشهادات دولية عدة منها شهادة إيدج المتطورة EDGE Advance كأول متحف أخضر فى إفريقيا والشرق الأوسط، بالإضافة لثمانى شهادات أيزو فى مجالات الطاقة والبيئة والسلامة المهنية، بالإضافة للشهادة الذهبية للبناء الأخضر وفقًا لنظام الهرم الأخضر المصرى من المركز القومى لبحوث الإسكان والبناء.
واقتصاديًا فإن المتحف مخطط له أن يكون وجهة سياحية وإضافة حقيقية لقطاع السياحة المصرى باستهداف مليون سائح سنويًا واستقبال العديد من المناسبات التجارية والثقافية وبتوسيع التعاون بين المتحف والقطاع الخاص، وهو ما سيمنح المتحف القدرة على الاستمرارية والقدرة على أداء دوره الثقافى والاجتماعى والاقتصادى ودعم الاقتصاد المصرى.
فى النهاية يمكن القول إننا أخيرًا وجدنا إجابة أسئلة ملحة للمتخصصين فى هذا المجال من الأجيال الحالية، حيث دائمًا ما نسأل إذا كانت الأهرامات والمعابد العملاقة والعمارة الإسلامية الرائعة وما نفتخر به كله موروث الأجداد فماذا قدم الجيل الحالى؟ ومتى سيتم تجميع وعرض تلك التحف المتراكمة فى مكان يليق بها وبأهميتها التاريخية؟ الآن أصبحت الإجابة واضحة فى ثلاث كلمات المتحف المصرى الكبير.
