معروفون «بالمهاجرين غير الشرعيين أو بغير الشرعيين اختصارًا»، هم نخبة ضباط الاستخبارات الروسية، الذين وهبوا حياتهم لمهنتهم وبلادهم لدرجة أن يتخلوا عن حياتهم، ليعيشوا حياة أخرى جديدة كليًا، ربما كانت حياة لأناسٍ آخرين. وفى البرازيل تجمع أكبر عدد من هؤلاء العملاء الروس، الذين تخلصوا من ماضيهم، أسسوا شركات، وكونوا صداقات، وحتى عاشوا علاقات غرامية، بهويات جديدة كليًا، فى عملية جريئة وواسعة النطاق، كشفتها السلطات البرازيلية.
لعبة التجسس لعبة خطيرة ومعروفة على مستوى العالم، والدب الروسى ضليع بها، ورغم ذلك، هذه ليست المرة الأولى التى تُكشف فيها إحدى شبكات التجسس الروسية، حيث كُشف النقاب عن عمليات تجسس روسية كبرى فى الماضي، بما فى ذلك فى الولايات المتحدة عام 2010. لكن هذه المرة، فى البرازيل، الوضع مختلف؛ فلم يكن الهدف من الشبكة الروسية التى كشفها ضباط الاستخبارات البرازيليون هو التجسس على البرازيل، بل أن يصبحوا برازيليين، وتُصبح البرازيل نقطة انطلاق لهم لأمريكا وأوروبا والشرق الأوسط، حيث حول الروس البرازيل إلى مصنع لتجميع العملاء السريين.
الأمر كان محكمًا وطبيعيًا للغاية فى البداية، حيث بدأ واحد من هؤلاء العملاء الروس مشروعًا للمجوهرات، أما الآخر فكان عارضًا للأزياء أشقر ذا عيون زرقاء، أما الثالث فكان يحمل الهوية البرازيلية وتم قبوله فى جامعة أمريكية، والآخر كان باحثًا برازيليًا حصل على عمل فى النرويج، وزوجان برازيليان انتقلا فى النهاية إلى البرتغال. ورغم أن الأمر كان يسيرًا إلى هذا الحد، إلا أن كل شيء انهار فى النهاية.
أرتيم شيميريف، ضابط المخابرات الروسية، الذى نجح فى خداع الجميع فى البداية، حيث امتلك شهادة ميلاد وجواز سفر أصليين بهويته الجديدة «جيرهارد دانيال كامبوس فيتيش»، وهو مواطن برازيلى يبلغ من العمر 34 عامًا. دانيال، أو شيميريف، كان يدير مشروعًا ناجحًا للطباعة ثلاثية الأبعاد، وكان يتشارك شقة راقية مع صديقته البرازيلية وقطتها. وبعد ست سنوات من التخفى وتثبيت هويته الجديدة، كان جاهزًا لبدء عمله الرئيسى كعميل. وفى عام 2021، كان قد كتب رسالة لزوجته – التى كانت هى الأخرى ضابطة مخابرات – بالإنجليزية، وقال لها: «لا أحد يريد الفشل، لذا أواصل الأمل والعمل».
وبالطبع، شيميريف لم يكن الوحيد فى البرازيل، فمنذ سنوات كشف تحقيق أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية فى حينه، أن العملاء الروس يستخدمون البرازيل كنقطة انطلاق لنخبة ضباط مخابراتها، فى عملية موسعة يتخلى فيها هؤلاء الضباط عن ماضيهم وهويتهم، ويبدأون بهويات جديدة. وربما لفت هذا التقرير انتباه السلطات آنذاك.
وعلى مدار الثلاث سنوات الماضية، نجح عملاء مكافحة التجسس البرازيليين فى مطاردة هؤلاء الجواسيس بهدوء ومنهجية، واستطاعوا اكتشاف نمط معين مكنهم من تحديد هويات الجواسيس واحدًا تلو الآخر. وكشف هؤلاء العملاء عن تسعة ضباط روس على الأقل يعملون بهويات برازيلية سرية، وفقًا للوثائق المتداولة، لكن لم يُكشف علنًا عن هوية ستة منهم على الأقل. وقال مسئولون إن التحقيق اشتمل على معلومات تخص العديد من الدول، بينها الولايات المتحدة وإسرائيل وهولندا وأورجواى وأجهزة أمنية غربية أخرى.
وقد نجحت صحيفة «التايمز» الأمريكية باستخدام مئات الوثائق الاستقصائية وعشرات المقابلات مع مسئولى الشرطة والمخابرات فى ثلاث قارات مختلفة فى تجميع وكشف تفاصيل عملية التجسس الروسية فى البرازيل والجهود السرية للقضاء عليها. وربما كان القرار الروسى بغزو أوكرانيا بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير، حيث أدى إلى التركيز على العملاء الروس حول العالم، حتى فى الدول التى كانت تُعد ملاذًا آمنًا لعملائها، ومن بينها البرازيل، التى تربطها علاقات ودية تاريخية مع روسيا.
وبالطبع، كانت هناك أصابع أمريكية فى هذا الموضوع، ففى أوائل عام 2022، بعد بضعة أشهر فقط من دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، أرسلت وكالة المخابرات المركزية رسالة عاجلة وغير عادية إلى الشرطة الفيدرالية البرازيلية. حيث أفاد الأمريكيون أن ضابطًا سريًا من المخابرات العسكرية الروسية انطلق من البرازيل إلى هولندا، حيث تلقى فرصة تدريب داخلى فى المحكمة الجنائية الدولية، تمامًا فى الوقت الذى بدأت فيه التحقيق هناك فى الغزو الروسى لأوكرانيا.
كان هذا المتدرب مسافرًا بجواز سفر برازيلى باسم «فيكتور مولر فيريرا»، وكان قد حصل على شهادة دراسات عليا من جامعة «جونز هوبكنز» بهذا الاسم. لكن اسمه الحقيقي، كما ذكرت وكالة المخابرات الأمريكية، هو «سيرجى تشيركاسوف». لكن مع قلة الأدلة، لم يكن لدى البرازيليين الوقت الكافى ولا السلطة لاعتقال تشيركاسوف، وتم وضعه تحت المراقبة، بعدما عاد إلى ساو باولو، بعدما منعه مسئولو الحدود الهولنديون من الدخول إلى هولندا وتم ترحيله مرة أخرى إلى البرازيل.
وبعد فترة من المراقبة فى ساو باولو، تم اعتقاله، لكن ليس بتهمة التجسس، بل بتهمة أخف، وهى تزوير أوراق رسمية. لكن أثناء التحقيق، أصر تشيركاسوف أنه برازيلي، وأن معه الوثائق التى تثبت ذلك، فقد كان جواز سفره البرازيلى الأزرق أصليًا، كما كان يحمل بطاقة ناخب برازيلية، بالإضافة إلى شهادة تثبت إنهاء خدمته العسكرية. الأمر، كما يقول المسئولون، بدا وكأنه مواطن برازيلى فعلاً، وليس له علاقة بروسيا، لولا ظهور شهادة ميلاده الأصلية.
فى الماضي، كان العملاء الروس يختارون هويات أناسٍ قد ماتوا بالفعل، أغلبهم أطفال، لكن فى حالة «مولر»، فقد كان لديه شهادة ميلاد برازيلية أصلية بالفعل، باسم أم حقيقية لامرأة توفيت بالفعل منذ أربع سنوات. لكن بسؤال أهلها، تبين أن المرأة لم يكن لديها أبناء قط، كما أن اسم الأب لم يكن موجودًا. وأطلق المسئولون على هؤلاء الروس «الأشباح»، حيث يُولدون من العدم، وتقصوا كيف يفعل الروس ذلك، حيث بدأوا يبحثون فى ملايين سجلات الميلاد، وجوازات السفر، ورخص القيادة، وأرقام الضمان الاجتماعي، والتى يجب البحث فيها يدويًا حتى يتم إدراك الهدف المنشود، ويبدو أن الروس قاموا بذلك.
لكن يبقى سؤال: لماذا البرازيل؟ والإجابة هى أن البرازيل مكان مثالى لحالات التخفى هذه، فجواز السفر البرازيلى من أكثر جوازات السفر فائدة فى العالم، إذ يسمح بالسفر بدون تأشيرة إلى عدة دول، يقارب حتى التى يسمح بها الباسبور الأمريكى نفسه. كما أن شخصًا ذا ملامح أوروبية سيذوب سريعًا فى المجتمع البرازيلى المتعدد الأعراق. كما أن البرازيل لا تشترط التحقق من مستشفى أو طبيب لتسجيل المواليد على عكس الكثير من الدول، فهى تعطى استثناءً للمناطق الريفية لتسجيل المواليد بحضور شاهدين أن أحد والديه على الأقل من البرازيل، الأمر الذى ساعد كثيرًا الروس على اختراق هذا المجتمع والانطلاق منه للأهداف الأخرى.
