رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«البصمــة الكربونيـــة» تفضح دور «الانبعاثات العسكرية» فى الكوارث المناخية


30-5-2025 | 20:54

.

طباعة
بقلم : د. أحمد ماجد قابيل

تتسبب الحروب الحديثة في دمارٍ يفوق ما يُرى بالعين من خرابٍ في البنى التحتية وسقوط للضحايا، إذ تمتد آثارها لتطال التوازن البيئي وتُحدث كوارث صامتة قد تمتد لعقود. لقد كشفت النزاعات المسلحة الأخيرة في أوكرانيا وغزة والسودان، والتهديدات المتكررة بين الهند وباكستان، عن وجه جديد وخطير للصراع البشري ودمار الطبيعة.

في أوكرانيا، تتضاعف الكارثة البيئية يومًا بعد يوم، حيث قدّرت وزارة البيئة الأوكرانية الأضرار البيئية بأكثر من 56 مليار دولار حتى الآن. لم تقتصر الآثار على تدمير الغابات أو تسرب المواد الكيميائية، بل امتدت لتشمل تلوثًا شاملًا للتربة والهواء والمياه.

 

وتفاقمت الأزمة حين تعرضت محطة تشيرنوبيل النووية في فبراير 2025 لهجوم بطائرة مسيرة روسية، أحدثت ثقبًا في هيكل الحماية، وعلى الرغم من عدم تسجيل تسرب إشعاعي خطير، فإن الضرر البنيوي يشكل تهديدًا طويل الأجل.

كما أن محطة زابوريجيا النووية، التي تُعدّ الأكبر في أوروبا، ظلت هدفًا عسكريًّا مرارًا، وتعرضت لانقطاعات فى إمدادات الكهرباء، ما رفع مستوى الخطر إلى ذروته فى منطقة تعيش على شفا كارثة نووية.

أما فى غزة، فقد أدى العدوان الإسرائيلي إلى انهيار شبه كامل للبنية البيئية، تدمير محطات معالجة المياه أدى إلى تصريف أكثر من 130 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي يوميًا إلى البحر، فيما تلوثت التربة بالمعادن الثقيلة والمواد السامة الناتجة عن الذخائر. وتُظهر التقارير أن الأراضي الزراعية دُمرت بالكامل فى مناطق مثل بيت لاهيا وخان يونس، حيث كانت الزراعة مصدرًا رئيسيًّا للغذاء والدخل.

ووفقًا لتقديرات منظمات بيئية دولية، بلغ حجم الانبعاثات الكربونية الناتجة عن العمليات العسكرية فى غزة خلال أول 120 يومًا من الحرب ما يقارب 536 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون، وهو رقم يعكس التأثير المباشر على أزمة المناخ العالمية.

فى السودان، ساهمت الحرب فى تعميق التصحر وتسريع انحسار الغطاء النباتى، إذ تُعدّ الزراعة والرعي من الأنشطة الأساسية هناك، وقد أدى النزاع إلى تحويل المراعي إلى أراضٍ زراعية غير مُستدامة، بينما تسببت المعارك في تدمير مصادر المياه ونزوح ملايين السكان، مما فاقم من تلوث البيئة المحلية.

أما التوترات المستمرة بين الهند وباكستان، فتُعدّ تهديدًا بيئيًّا محتملًا ذا أبعاد كارثية، فحسب دراسات علمية نشرت في دوريات دولية، فإن أي نزاع نووي محدود بين الدولتين قد يؤدي إلى انخفاض في درجات الحرارة العالمية يتراوح بين درجتين إلى خمس درجات مئوية، نتيجة للسُحب السوداء الناتجة عن الحرائق الكبرى، وهو ما يُهدد الأمن الغذائي العالمي.

كما شهدت العلاقات بين البلدين استخدامًا محتملاً «لسلاح المياه»، إذ هددت الهند بتعليق معاهدة مياه السند، مما قد يؤدي إلى أزمة مائية في باكستان ذات تداعيات بيئية وإنسانية خطيرة.

إن الحروب لم تعد فقط تهديدًا مباشرًا للإنسان، بل أصبحت خطرًا ممنهجًا على البيئة والمناخ العالمي. وإزاء هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحة لإدراج الانبعاثات والتلوث الناتج عن الحروب ضمن تقارير المناخ العالمية، ولمساءلة الدول المتسببة بيئيًّا شكما تُساءل عن جرائم الحرب التقليدية.

ومن بين المفاهيم التي باتت تلعب دورًا محوريًّا في رصد الأثر البيئي للحروب ما يُعرف بـ«البصمة الكربونية»، وهي المقياس الذي يُستخدم لحساب إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة التي تنتج عن نشاط معين، بما في ذلك العمليات العسكرية. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن البصمة الكربونية للنشاط العسكري تمثل ما يصل إلى 5.5 في المائة من الانبعاثات العالمية، وهي نسبة تتجاوز تلك الناتجة عن صناعة الطيران المدني العالمي.

ويُعد احتساب البصمة الكربونية للحروب خطوة أساسية لفهم الأثر المناخي الحقيقي للنزاعات، إلا أن غياب الشفافية وصعوبة الحصول على البيانات العسكرية الدقيقة يعوقان هذا التوجه. لذا، لا بد من إدراج الانبعاثات العسكرية ضمن التزامات الدول في اتفاق باريس للمناخ، والعمل على تطوير أدوات محاسبة بيئية تُلزم الأطراف المتحاربة بالإفصاح عن آثارها المناخية.

وعلى مستوى الحلول، هناك عدة مسارات يجب أن تتقاطع:

أولًا: تعزيز دور القانون الدولي البيئي في النزاعات، وتفعيل اتفاقية جنيف الخامسة المقترحة لحماية البيئة أثناء الحروب.

ثانيًا: الاستثمار في آليات رصد الأثر البيئي للنزاعات عبر الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي، ما يتيح توثيق الأضرار في الوقت الحقيقي.

ثالثًا: دعم مشاريع إعادة الإعمار البيئي، بما في ذلك إعادة تشجير المناطق المتضررة، وتنقية التربة، وإعادة تأهيل الموارد المائية.

رابعًا: دمج القضايا البيئية ضمن مفاوضات وقف إطلاق النار والاتفاقيات السياسية، باعتبار البيئة ضحية منسية يجب حمايتها وتعويضها.

فما لا تُدمّره القذائف، قد يُدمّره التلوث الصامت، وما لا يُقتل في لحظة، قد يموت خنقًا على مدى سنوات بفعل مناخ اختنق بالحرب.