إذا كان التميز لا يأتى من فراغ.. فما بالنا بالتفرد؟ لابد أنه نتاج عوامل عدة وظروف هى الأخرى خاصة فى عناصرها، متفردة فى مجموعها، لذا يمكنها عند درجة ما أن تبلغ من صاحبها مبلغا لا حدود له ، عند قمة لا يعلى عليها ، وأثر يمتد عبر الزمن غير قابل للتكرار ولا حتى للخفوت، أستطيع أن أقول بثقه تامة إن هذه الكلمات القليلة هى وصف لحالة عبدالحليم حافظ فى أبسط تعبيرات ممكنة، أما غير الممكن وما أثبتته الأيام، بل والسنوات تلو السنوات بالدليل القاطع هو استحالة تكرار هذه الموهبة الفذة، وتلك الحالة الاستثنائية عابرة الزمن.
«فلماذا لم يظهر عبدالحليم آخر؟» سؤال سألته الأقلام منذ رحيل حليم قبل ٤٥ عاما و ظلت تسأله لسنوات و حتى الأن و حيث لم يظهر من هو فى نفس موهبته أو حقق نفس خلوده ، فمازلنا نسأل عن هذا الرجل الذى كان من العبقرية بمكان ليظل هذا السؤال فارضا نفسه حتى يومنا هذا، بعد كل هذه السنوات على الرحيل؟ ولازلنا نتساءل ولازلنا نبحث عن إجابة،، اليوم و مع ذكرى ميلاده .. نعيد على مصادرنا الأعزاء التساؤل فى هذا التحقيق بالقول: لماذا لم يظهر عبدالحليم آخر .. فماذا قالوا؟
فى البداية يقول الناقد الموسيقى الكبير، د. زين نصار الأستاذ المتفرغ بقسم النقد الموسيقى بالمعهد العالى للنقد الفنى: عبدالحليم تمتع بموهبة موسيقية عالية جداً، بل موهبة من الطراز الأول، وصوت جميل لشخص شديد الذكاء وشديد الجرأة أيضاً، فعلى سبيل المثال عندما يغنى يوم 9 يناير 1960 «حكاية شعب» فى أسوان أثناء بناء السد العالى من كلمات أحمد شفيق كامل وألحان كمال الطويل، ويقول «ضربة كانت من معلم» ويغنيها أمام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر آنذاك، كان الكل خائفاً، ولكنه عندما غناها أمام عبدالناصر وجده يضحك وسعيد، بالإضافة إلى دراسته الأكاديمية بالمعهد العالى للموسيقى المسرحية، وكان من دفعته أحمد فؤاد حسن، وكمال الطويل، فتخرج موهوباً دارساً متعلماً، وكان ينتظر الفرصة، وغنى فى البيوت أعياد الميلاد.
ويضف د. نصار: ثم جاءته فرصة الغناء فى احتفالات الذكرى الأولى لثورة 52، وتحديداً يوم 18 يونيو ١٩٥٣ وكان وقتها يغنى فى حفل من تقديم الفنان الكبير يوسف وهبى، الذى أوقف الحفل بناء على تعليمات، معلناً بيان أتاه من مجلس قيادة الثورة يقول بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية فى مصر، الخبر الذى استقبله الناس بسعادة بالغة، وكان الحفل مذاعاً على الهواء وانتشت الناس جداً بهذه الأخبار السعيدة، فكان المناخ النفسى مهيئاً عندما يخرج عبدالحليم للغناء ليكون الاستماع إليه بذهن صافٍ، وربما كان هذا عوضاً له، حيث عاش مكافحاً طوال عمره وأراد الله أن يعوضه من خلال ظهوره الأول هذا، واستقبال الناس كلها له بحب شديد، بعد ذلك راح عبدالحليم يتعامل مع كل الملحنين فى ذاك الزمان وقد ميزته ميزة أنه لم يقلد أحداً، وقد كانت رغبته فى التفرد شديدة، وعندما قال له أحدهم ذات مرة إن صوته يشبه أحد الموجودين على الساحة رد قائلاً: «أنا ما بشبهش حد».
ويكمل: صاحبه أيضاً مجموعة من شباب الملحنين الذين صعدوا السلم معه مثل كمال الطويل، محمد الموجى وبليغ حمدى ثم منير مراد، وضعهم الله فى سكته وكونوا «ستايل» غنائياً غير مسبوق وغير السابقين مثل رياض السنباطى، وغنى حليم بطريقة مختلفة عن عبدالغنى السيد وإبراهيم حمودة وكارم محمود، وفكر بأسلوب مختلف حتى صارت كل الناس تريد أن تقلد عبدالحليم ولكنه لم يقلد أحداً، نضيف إلى ذلك كونه أرَّخ لثورة يوليو ولكل معركة دخلتها مصر، فقال «الله على جيشنا والشعب معاه»، «صورة»، «فدائى»، وأثناء حرب الاستنزاف غنى «بالأحضان يا سينا»، و تعاون مع مختلف الملحنين، وكان ياخذ من كل واحد منهم أحسن ما عنده، ثم جاءت مرحلة الدخول إلى عالم السينما، وقدم من خلالها أفلاماً غنائية خدمت السينما وخدمته.
وتقول الناقدة الموسيقية د. إيناس جلال الدين.. مدير عام التخطيط الموسيقى والغنائى بالإذاعة المصرية: إمكانيات عبدالحليم الصوتية إذا ما حكمنا عليها بمقياس عصرنا الحالى لا نستطيع اعتباره من أقوى الأصوات، ولكن كان فى وقتها شاباً جديداً يقدم فكراً جديداً يمتاز بالصدق الشديد، عبدالحليم كان لديه مشروع ومؤمن به، فضلاً عن ظهوره فى مرحلة سياسيه ذات أبعاد وملامح مختلفة، وقد أثرت عليه وأثرته، فقد صاحبت ظهور عبدالحليم حالة اجتماعية وثقافية جعلته ينشأ فى مناخ مختلف، وقدم طرقاً غنائية تعتبر تغييراً فى مسار الأغنية وفى شكل الأداء الغنائى للمطريين وقتها، والذى كان يعتمد على السلطنة.. أتحدث عن الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، أما مع بداية الخمسينيات والستينيات تغير الشكل الغنائى تماماً، حتى الفرقة الموسيقية فى حد ذاتها كبرت وكان لها تاثير كبير وكان من ذكاء عبدالحليم الشديد، أن كان لديه مشروع وحلم يسعى خطوة بخطوة لتحقيقه، وكان يستثمر ملكاته لتحقيق حلمه، ويدرس اللحن ويحفظه ويختار الكلمات المواءمة له، فاستطاع اختراق قلوب العذارى وحتى الشباب بكلمات راقية وأحاسيس ومشاعر كانت جديدة عليهم.
وتستطرد، د إيناس: عبدالحليم جاء أيضاً ومعه مجموعة من شباب الملحنين والمؤلفين الذين آمنوا بالتغيير مثل صلاح جاهين، محمد الموجى، كمال الطويل، بليغ حمدى ومنير مراد.. فخرجت أعمالهم بصوت حليم لتطال عنان السماء وتنير قلوب المستمعين.
فنجد أن محمد الموجى وحليم شكلاً ثنائياً مختلفاً، الموجى أحب عبدالحليم على المستوى الشخصى، وحليم استطاع أن يترجم هذا الحب فى صنع مجد غنائى مختلف لكليهما، وأخرج من الموجى أعظم ما لديه، فقدم الموجى ألحاناً لحليم، لم يعطها لمطرب أو مطربة أخرى، وأخذ من بليغ أيضاً أجمل الألحان وشعر هؤلاء الشباب بأن نجاحهم سيكون مع عبدالحليم فكان الجيل كله راغباً فى أن ينجح، أخذ أيضاً من منير مراد التعبيرية فى الغناء، أخذ منه ألحاناً مرحة وأخرج حليم من منير مراد أحلى ما لديه، وكان بذكائه الاجتماعى وقدرته على الإبهار ينتقى ويخرج ممن حوله أجمل ما لديهم.
وتضيف: فى مرحلة الغناء الوطنى صاحبه على إسماعيل، صاحب الوطنية الشديدة والمصرية العظيمة، الذى وضع بصمته القومية وبصمته المصرية فى توزيع أغانى حليم، فقدم له أغنية «المسيح» و«حكاية شعب»، وعندما نقول لماذا تفرد عبدالحليم؟.. فنحن لا نتحدث عن صوت جميل فقط، ولكن كل الظروف التى تكاملت لخلق حالة على بعضها، وعندما نجد حفلاته تحوى ٦٠ و٧٠ عازفاً يستمرون فى بروفات لمدة شهرين من أجل حفل يلقى قبول الجميع مع مجاميع الكورال التى تغنى حوله، كانوا أبناء الجيل الصادق المحب لوطنه الراغب فى تقديم مشاريع غنائية قومية كبيرة.
من جانب آخر نجد أن حليم قدم فى السينما أفلاماً عظيمة، قدمها ببساطة وشكل يوائم شكل شباب هذا الجيل، قدم الحب الذى كان يداعب البنات والشباب فى ذلك الوقت بأسلوب راقٍ بديع، حليم كان يطبع إحساسه وأسلوبه على كل ما يغنيه، وكل إنسان ابن بيئته، وتربية حليم فى الملجأ شكلت وجدانه وصنعت الشجن فى صوته، نستطيع أن نقول إن حليم كان حالة متكاملة للمطرب الدارس والمثقف، فضلاً عن موهبته الربانية.
ويرى د. أشرف عبدالرحمن.. الأستاذ بالمعهد العالى للنقد الفنى: إن عبدالحليم كان نمطاً وأسلوباً جديد فى الغناء، خرج من عباءته بعد ذلك المطربون عماد عبدالحليم، محمد ثروت وغيرهم، وعندما ظهر عبدالحليم فى وقت وجوده على قيد الحياة حاول المطربون كمال حسنى، عبداللطيف التلبانى، ماهر العطار أن يقلدوه ولم يصل أحد لقمته، وهناك ظواهر فنية تتوفر لها عوامل قلما تتوفر لأى شخص، عبدالحليم توفرت له عوامل سياسية جعلت المناخ حوله بشكل عام مختلفاً، فقد ظهر مع ميلاد ثورة يوليو 52، وهذا الظرف الاجتماعى أثر فى غنائه بشكل كبير، وكان هناك رياض السنباطى وعبدالوهاب والقصبى ومحمود الشريف.. هؤلاء كانوا نجوم النمط القديم، أما هو فكان ذا طابع جديد وفكر جديد، وظهر معه كمال الطويل وبليغ حمدى ومحمد الموجى ومنير مراد، فأصبح حليم مؤسس مدرسة الغناء العاطفية، مدرسة الإحساس والعذوبة فى الأداء، وكان معه أيضاً الشعراء منهم عبدالرحمن الأبنودى ومحمد حمزة وغيرهما.. فظهروا جميعاً «فاهمين لغة بعض»، فضلاً عن أن حليم كان وجهة مريحاً ويمتاز بقبول ربانى.
نضيف إلى ذلك ظروف مرضه وإحساسه بالألم، وكذلك اليتم وهو ما انعكس على أداء الغناء العاطفى وجعل من صوته حالة خاصة، وجعل الناس تتعاطف أيضاً مع هذا الصوت ومع ظروفه وتنشئته الاجتماعية كطفل يتيم وفقير، كل هذا أثر فى ملامح وجهة وصوته أيضا، أما بعد ذلك فظهرت أصوات جميلة مثل هانى شاكر، محمد ثروت ومحمد الحلو ومحمد منير وعلى الحجار ومدحت صالح، وكل هؤلاء لا يمكن أن نظلمهم ونتجاهل موهبتهم أو تاريخهم، لكن لم يمروا بنفس تجارب حليم الحياتية، التى ظهرت فى صوته وشكل الأداء، فجعلت صوته هو صوت الهمس والإحساس والمشاعر، وحتى إلى مستوى القصيدة الغنائية هو جديد ومتطور، حسبنا فيما قدمه فى «قارئة الفنجان» فيما كان حليم أيقونة الثورة مؤرخاً لتاريخ مصر السياسى فى النصف الثانى من القرن العشرين، حيث غنى لبناء السد العالى، غنى لعبدالناصر، غنى لانتصارات أكتوبر، غنى «أحلف بسماها وبترابها»، غنى «عاش اللى قال» بعد العبور، وكان حليم أول من غنى الدعاء الدينى الوصفى الذى يصف الطبيعة وجمالها، فقدم 11 دعاءً دينياً مع الشاعر عبدالفتاح مصطفى والملحن محمد الموجى، الذين صنعوا لوناً للغناء الدينى بشكل لم يكن موجوداً من ذى قبل.
ويقول الباحث والناقد الموسيقى د. شريف حمدى.. أستاذ العلوم الموسيقية بكلية التربية الموسيقية:
ساعد فى تفرد عبدالحليم اجتماع عدة عوامل مختلفة أهمها، أن السوق الغنائى فى ذلك الوقت الذى ظهر فيه عبدالحليم كان متعطشاً لهذه النوعية من الصوت الدافئ، فعندما يظهر أحد ممتلك لهذا الصوت.. فقد صنع بالطبع تفرده.