الأحد 5 مايو 2024

مسلسلات من قلب المجتمع إلى الشاشة الصغيرة

مسلسل ارابيسك

6-1-2023 | 13:01

رشا صموئيل

نجح كتاب الدراما التليفزيونية فى الثمانينيات والتسعينيات فى رسم صورة حية لشكل الحارة المصرية الأصيلة المغلفة بالجدعنة والطيبة وشهامة أولاد البلد، ولكن سرعان ما اختلف هذا الشكل وصارت دراما العنف والبلطجة هى المسيطرة فى بعض الأعمال، وتحولت صورة البطل الشعبى من ذلك الشخص الشهم، الجدع، ابن البلد، الذى يدافع عن حق ضائع بوسائل شرعية إلى البطل الذى يمارس أعمال البلطجة فى الحارة بقوته الجسدية وألفاظه النابية ليصبح الانتقام سيد الموقف، ضارباً بالقانون عرض الحائط. هنا لابد أن نتوقف لنتساءل: هل بالفعل الكاتب ينقل الواقع وتغيراته، أم أن هذا من وحى خياله؟ ولماذا تغير هذا الخيال ليصل الحال بنا إلى ما صرنا نراه الآن عبر بعض مسلسلاتنا التى تقدم صورة مغايرة تماماً عما اعتدناه؟

نجيب محفوظ.. والبطولة للحارة

من أبرز الكتاب الذين أظهروا الحارة الشعبية بعمق شديد هو أديبنا الكبير نجيب محفوظ، الذى كانت محور كتاباته تدور حولها، بما فيها من مفردات مثل المقهى والأزقة والبيوت القديمة والقصورالشاهقة، حيث أبرز جمال مبانيها المتصلة بالموروث الشعبى وأيضاً عبر عن بساطة وطيبة أهلها وجسد من خلال كتاباته الكثير من معالم الشخصية المصرية وعاداتها وتقاليدها وذلك عبر أكثر من رواية، تعدد استخدام المخرجين لها وتصويرها من خلال أفلام سينمائية أو مسلسلات تليفزيونية؛ لما وجدوه فيها من ثراء بصرى لا يضارع، وفيما يلى رصد لروايات نجيب محفوظ التى تضمنت الحارة الشعبية ذات الطابع المصرى الأصيل، والتى تحولت إلى دراما تليفزيونية.. وقد وصل عدد رواياته وقصصه التى تحولت إلى مسلسلات تليفزيونية إلى 9 أعمال هى: «اللص والكلاب»، «الباقى من الزمن ساعة»، «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «حضرة المحترم»، «الأقدار»، «حديث الصباح والمساء»، «أفراح القبة»، «طريق»، وكات البطولة فى كل هذه الأعمال للحارة التى اتخذها محفوظ رمزاً لمصر، حيث كانت مصر فى أغلبها عبارة عن مجموعة حارات متفرعة من بعضها البعض وكان محفوظ يرصد أسرار الحياة اليومية للبسطاء من الناس الذين يقطنون تلك الحارات ويبرز شهامتهم ومواقفهم الوطنية، وكانت الطبقة الوسطى تمثل عامة الشعب، لذا حصل على جائزة نوبل للأدب من خلال رصده للأحداث التى شهدتها الحارات الصغيرة ومن ثم المجتمع الكبير.

حارة أسامة أنور عكاشة

أيضاً برع كاتب الروائع أسامة أنور عكاشة فى رسم لوحة فنية عن الحارة الشعبية فى مسلسلاته، ليعكس لنا جدعنة أهلها وشهامتهم وقيمهم، حيث نقل صورة فى منتهى الرشاقة والبساطة التى تخلو من الابتذال، ليقدم أعمالاً ممزوجة بالواقع، فجعل من الحارة الشعبية البنية الأساسية لأعماله التى رصدت بوضوح ملامح الحى الشعبى الذى يعيش فى ظله مجموعة من الناس يتشابهون فى الظروف الاجتماعية، ورغم بساطة القوت اليومى لهؤلاء السكان تجدهم راضين بما قسمه الله لهم من الأرزاق وتجمعهم أيضاً خفة الدم وبساطة الهيئة وحسن التعامل بينهم، ومن هذه المسلسلات «أرابيسك» الذى قدم فيه الفنان الكبير صلاح السعدنى شخصية حسن أرابيسك، ابن حارة خان دويدار، الذى جسد شهامة وجدعنة أهل الحارة المصرية الأصيلة بتميز شديد لا يمكن نسيانه فى تاريخ الدراما المصرية، كما قدم عكاشة  أيضاً الحارة من خلال مسلسل «الشهد والدموع» الذى صنفه النقاد كأحد أروع المسلسلات الدرامية الخالدة التى تناولت أحداث اجتماعية وسياسية مهمة فى تاريخ مصر، وقدم هذا المسلسل على جزأين ليوسف شعبان وعفاف شعيب ومحمود الجندى وخالد زكى ونوال أبو الفتوح ورجاء حسين واخرين..من إخراج إسماعيل عبد الحافظ، ليرصد لنا من خلال المسلسل شكل الحارة قبل وبعد ثورة يوليو وما أحاطها من أحداث من خلال الشقيقين (حافظ وشوقى) أبناء الحاج رضوان، اللذين تختلف مساراتهما الحياتية تمام الاختلاف، فيموت شوقى كمداً ويحتال حافظ على ميراثه وتشقى أرملة شوقى فى تربية أبنائها ما يورث لدى الأخ الكبر روح العداء والانتقام من أسرة عمه الثرية التى تعاملهم باحتقار وتتوالى الأحداث فى قوالب درامية بديعة الصنع.

 أما المسلسل الأشهر والأكثر حضوراً فى الذاكرة ما بين أعمال عكاشة.. هو مسلسل «ليالى الحلمية»، الذى لاقى نجاحاً كبيراً وأحدث نقلة نوعية إبداعية فى مشوار كاتبنا الكبير، حيث جسد المسلسل التاريخ المصرى الحديث من عصر الملك فاروق وحتى مطلع التسعينيات فى خمسة أجزاء، كان آخرها عام 1995.. فيما تم عرض الجزء السادس منه عام ٢٠١٨.. هذا المسلسل الذى ألقى الضوء على الحارة المصرية بكل تفاصيلها بما أحاطها من شخصيات وظروف، ومن أهم معالمها قهوة زينهم السماحى والعالمة سماسم زوجة المعلم السماحى وغيرهما من شخصيات الحارة التى رسمت بدقة وبراعة، حيث أظهر عكاشة تكاتف الناس فى تلك الأحياء وتعاضدهم وكيف يمارسون العديد من الأعمال بشكل جماعى كحضور المباريات وفى الأفراح تجدهم يداً واحدة، وفى ساعات المساء يجتمع الرجال على المقاهى للسمر والاستماع إلى أغانى الزمن الجميل.

يأتى أيضاً مسلسل «زيزينيا» فى هذا الإطار وتدور أحداثه حول الفرق بين حياة الأجانب والمصريين الموجودين فى مناطق إسكندرية الشعبية.

 كذلك مسلسل «الراية البيضا»، الذى تدور أحداثه حول «فضة المعداوى» السيدة الثرية، غير المتعلمة، التى ترغب فى الاستيلاء على قصر أثرى يقيم به أحد السفراء فى فترة تقاعده، التى قدمتها باقتدار لا ينسى العظيمة سناء جميل، وقد أوضح المسلسل تكاتف أهل الحارة مع بعضهم البعض ليمنعوها من الاستيلاء على هذا القصر.

 الألفية الجديدة

ومع دخول الألفية الجديدة سرعان ما حدثت تغيرات كبيرة فى نوعية الكتابة ونوعية من يجسدها على الشاشة الصغيرة، حيث أصبحت الأحداث أكثر دموية، وسيطر العنف والبلطجة فى بعض الأعمال التى تدور داخل الحارة والمناطق الشعبية، وهنا أصبح البطل هو من ينجح فى أن يجسد هذه النماذج ويعكسها على الشاشة بعمق وتلقائية شديدة والذى يقال عنه يمثل فئة شعبية عريضة من شباب الأحياء الشعبية!

يتصدر ذلك المشهد الفنان محمد رمضان الذى أصبح ملك هذه النوعية من الدراما، إذا جاز التعبير، وهو ما كان واضحاً من خلال عدد من المسلسلات التى قدمها فى العقد الثانى من هذا القرن، منها «البرنس» و«زلزال» و«نسر الصعيد» وأيضاً فى مسلسله الأخير «موسى»، حيث يظهر البطل الشعبى الذى يستعيد حقه بالعنف والقتل بصورة تؤثر بشكل كبير فى تدمير للقيم الاجتماعية الإيجابية.

وصولاً هذا العام أيضاً لمسلسل «ملوك الجدعنة» الذى عرض فى شهر رمضان 2021 كصورة مماثلة، وعلى نفس نهجه وأسلوبه، فجاء العمل خالياً من الترسيخ للقيم والعادات والتقاليد،، واعتمد فى تصويره لشخصية الجدع الشهم على أنه شخص دائم الشجار ويحمل الأسلحة البيضاء، وهدفه الوصول للثراء السريع أياً كانت الطرق.

على صعيد آخر أيضاً نذكر مسلسل «أبو جبل» للفنان مصطفى شعبان، وكان من أكثر المسلسلات التى ظهر فيها شكل ومضمون الحارة المصرية الأصيلة، حيث اعتمد المخرج أحمد صالح على التصوير فى الأحياء الشعبية الحقيقية مما يمنح العمل مصداقية كبيرة، فقد صور فى حى السبتية وفى حى بولاق ومنطقة القلعة هذا من حيث الشكل الذى ظهر على الشاشة، أما من حيث المضمون سنجد المسلسل يستعرض بوضوح شهامة وأصالة سكان الحارة المصرية حيث تدور أحداثه حول حسن أبو جبل الذى يفقد أمواله واثنين من أولاده جراء حريق يشتعل فى منزله بفعل فاعل فيبدأ البحث عن الجانى فى الوقت الذى يتصارع فيه مع شقيقه حول الميراث. المسلسل تأليف محمد سيد بشير وإخراج أحمد صالح.

نذكر أيضاً مسلسل «البرنسيسية بيسة» الذى يرصد الحارة المصرية بشكل آخر بطولة النجمة مى عز الدين التى تظهر بشخصيتين (بيسة وسكسكة) والتى قدمتهما فى إطار كوميدى ونشاهد هنا تفاصيل كثيرة عن العلاقات داخل الحوارى، ونرى خلال العمل الفرح والزفة فى الحارة المصرية، وسيناريو مصطفى عمر وفاروق هاشم وإخراج أكرم فريد.

على النحو الآخرهناك نماذج من المسلسلات حرص فيها الكاتب على ألا يخرج عن المألوف، بل عمل على ترسيخ قيم وعادات وطيبة وأصالة الحارة وأهلها، ومن هذه النماذج مسلسل «رمضان كريم» وأيضاً مسلسل «الحارة» وهما للكاتب أحمد عبدالله.

مسلسل «رمضان كريم» هو مسلسل درامى كوميدى، تدور أحداثه حول تجسيد مظاهر الاحتفال بشهر رمضان فى إطار الحارة الشعبية، حيث إحدى الفتيات التى تحاول التبرؤ من أهلها ومستواها الاجتماعى، فتلجأ إلى الكذب والادعاء بأنها من عائلة ثرية حتى تتعرف على شاب تقع فى حبه وتتوالى الأحداث.. بطولة روبى وسيد رجب وريهام عبد الغفور وصبرى فواز وشريف سلامة وسلوى عثمان. إخراج سامح عبد العزيز، هذا العمل حقق نجاحاً كبيراً نظراً لبساطة أحداثه وتشابهها مع كثير من أحداث حياة وتفاصيل بعض الطبقات فى مصر، حيث نقل بأمانة ما يحدث داخل هذه الطبقة، المسلسل يدور فى حارة من حوارى مصر القديمة ويعتمد على سرد القصص العادية جداً، التى تتماهى مع المجتمع فى دوائر عديدة يجمع بينها فقط أنها جميعاً من الطبقة الشعبية والتى لا تختلف مشاكلهم عن باقى الطبقات الاجتماعية.

فى هذا الاطار أيضاً نتذكر مسلسل «بين السرايات» الذى ناقش قضيه التعليم والطلاب وعلاقتهم بمنطقة بين السرايات الشهيرة التى تقبع فيها جامعة القاهرة وتأثير التعليم والجامعة على المنطقة الشعبية وأهلها ومشاكل المنطقة وكيف تخدم المنطقه الجامعة وطلابها وعلاقات الناس ببعضها البعض، راصداً العديد من الحالات الإنسانية فى هذا السياق.

المسلسل بطوله روجينا، سيمون، باسم سمرة وصبرى فواز، من تأليف أحمد عبد الله وإخراج سامح عبد العزيز.

 كذلك من أهم الأعمال فى هذا الإطار مسلسل «الحارة»، حيث تدور الأحداث فى حارة مصرية من خلال شخصية محورية هى «منى» التى تعمل للإنفاق على أسرتها الفقيرة وتتنوع الشخصيات فى الحارة بين أهالى الحارة الذين يتمسكون بمبادئ وأخلاق تربوا عليها، وبين البعض الذى يخرج على هذه العادات والتقاليد.

المسلسل بطولة سوسن بدر وكريمة مختار وصلاح عبدالله، وقد وقع اختيار سامح عبد العزيز مخرج العمل على بناء ديكور ضخم لحارة شعبية حقيقية تشبه حارة بحى الإباجية وتضم الحارة 4 حارات رئيسية و6 فرعية، وبها مقاهـٍ ومحلات وسوق وكل مظاهر الحياة الجديدة، المسلسل يطرح صورة حقيقية للحارة المصرية بواقعها الحديث ويقدم شخصيات من لحم ودم بهدف إحياء أخلاقيات الحارة المصرية الشعبية الأصيلة فى شكل درامى جديد ومؤثر فهى دراما تنقل المشاعر الإنسانية الصادقة من خوف وضعف وخير وشر إلى الجمهور، وهو من تأليف أحمد عبد الله، وإخراج سامح عبد العزيز.

حيرة المؤلف بين الواقع والمنشود

وقد التقت «الكواكب» بالمؤلف أحمد عبدالله الذى أخذ دوراً حيادياً للحكم على كتاب هذا العصر قائلاً: بداية أنا من جيل الوسط، ولذلك لم ألحق بحارة نجيب محفوظ ولكن عشت حارة أسامة أنور عكاشة ما قبل الثورة، وأيضاً عشت الحارة الآن، ومن واقع معايشتى أستطيع أن أقول إن 40 % مما يحدث فى الحارة على أرض الواقع يقدم الآن على الشاشة، ولذلك المؤلف فى حيرة، لأن سمات حارة عكاشة التى حضرتها اختلفت تماماً عن سمات الحارة الآن.

موضحاً: على سبيل المثال الشجار الذى كان ينشب بين طرفين والضرب بالشوم، صار الآن يصل الآن أحياناً إلى الساطور والسنجة والمطواة، فأصبح المؤلف الآن فى حيرة من أمره ما بين تقديم الحارة كما أصبحت فى الواقع أو كما يتمناها أن تكون.

مستكملاً حديثه: أنا شخصياً عندما كتبت مسلسل «الحارة» كتبته من منظور ما أتمنى أن تكون عليه الحارة المصرية، وابتعدت عن المشاهد الشاذة من البلطجة والعنف، وأتمنى من المؤلف الذى يكتب هذه النوعية من الأعمال ألا ينقل النماذج السيئة فى المجتمع على الشاشه ويخلق منها «هيرو» أو «بطل»، بل يضعها فى أدوار ثانوية ويضع لها نهايات رادعة وعقاباً حتى يتعلم منها الأطفال ويعرفوا أن الخير هو الذى ينتصر فى النهاية، فالفن قوى ناعمة ودوره هو تجميل الواقع على الشاشة واحترام نفسية المشاهد، وفى النهاية أحب أن أقول إن كانت بعض الحارات بها بلطجة، لكن الغالبية مازالت محترمة جداً.

 وفى هذا الصدد يقول الناقد الكبير طارق الشناوى: للأسف تغير الشارع المصرى فى العشر سنوات الأخيرة، وتغيرت فيه العديد من القيم والمبادئ والجدعنة كمفهوم  بعد أن كانت صفة للشخص الذى يتحلى بالشهامة ويدافع عن العدالة ويحمى الفتاة التى تعاكس لأنه يعتبرها شرفه، لكن للأسف حتى القيم النبيلة يجب أن نعترف بأنها فى الفترة الأخيرة بشكل أو بأخر تقلصت، ولذلك لانستطيع أن نغض الطرف ونتجاهلها تماماً فى الفن، ولكن ينبغى تناول هذا العنف فى الدراما كظاهرة، بمعنى عدم الإسراف فى استخدامه وإظهاره بشكل تجارى، كما أن الحرص على الصورة الذهنية التى رسخها نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة صعب، وهنا يتجلى ذكاء الكاتب فى إظهار السلبيات ولكن بمعالجة درامية متوازنة تظهر الصورة التى وصلت إليها الحارة الشعبية ويعرضها بشكل مقبول، بعيداً عن الإسراف فى مشاهد العنف والبلطجة.