الأحد 24 نوفمبر 2024

رشدى أباظة .. الدنجوان الذى هزمه السرطان

رشدي اباظة وشادية

26-1-2023 | 14:12

أشرف غريب

فتش فى ذاكرتك ما استطعت، حاول أن تنعشها، استعرض أمام ناظريك كل فتيان الشاشة الذين عرفهم تاريخ السينما المصرية والعربية ، ثم أجب : من هو أكثر هؤلاء وسامة وجاذبية وفتوة وحيوية بل وفحولة إذا جاز التعبير؟ من هو أكثرهم حضورا وخفة ظل وقدرة على التلون فى التمثيل مهما اختلفت طبيعة الدور الذى يؤديه ؟ إنه بالتأكيد اسم واحد اجتمعت لديه كل هذه الخصال على ذلك النحو من التميز .. إنه رشدى سعيد بغدادى أباظة ابن عائلة الأباظية العريقة الذى دخل مجال التمثيل على سبيل المغامرة رغما عن إرادة عائلته فإذا به يصبح بعد فيلم « الرجل الثانى» سنة 1959 الرجل الأول فى تاريخ السينما المصرية مهما تباعدت السنون أو تعاقبت الأجيال .

كان رشدى أباظة الذى ملأ الحياة الفنية حيوية وحركة بل وصخبا وضجيجا أيضا يدرك عن نفسه – كما عشاقه – كل هذه الخصال وتلك الحظوة الجماهيرية التى يتمتع بها ، ومن هنا كانت الصدمة مفجعة حينما تأكد أباظة ذات يوم خريفى من أيام عام 1979 أنه مصاب بورم خبيث فى المخ بعدما ظل يعانى من آلام متصاعدة فى الرأس أسلمته إلى العديد من الفحوصات الطبية التى قادته إلى تلك الحقيقة المرة : رشدى أباظة الرجل صاحب البنيان القوى والفتوة والحيوية ، معبود النساء وقدوة الرجال أصبح ببساطة فى ذلك اليوم المهيب على بعد أمتار من مشهد النهاية الحزين، ولم يكن الموقف سهلا على الدنجوان ، كيف له أن يقبل تحول نظرة الإعجاب فى أعين الناس إلى شفقة؟ لذلك قرر أن يبقى الخبر غير معلن وفى حدود دائرته الضيقة حتى أنه وافق فى ذلك الوقت على تصوير فيلم «الأقوياء» للمخرج أشرف فهمى دون أن يعلم أحد بحقيقة مرضه، وحكى لى قبل سنوات طبيبه المعالج د. جمال العرقان أنهم كانوا يحتاجون فى بعض مراحل المرض إلى نقل دم ، فكان رشدى يرسل خادمه الخاص إلى مستشفى العجوزة كى يشترى أكياس الدم باسم هذا الخادم حتى لا يعلم أحد أن النجم المحبوب بحاجة إلى نقل دم  مضيفا أن رشدى حتى ذلك الوقت كان متماسكا مصرا على الانتصار على المرض اللعين، لكن مع تطور الحالة المرضية استدعى الأمر سفره إلى لندن وباريس، فانتشر خبر مرض رشدى أباظة، وتدخلت مؤسسة الرئاسة بسرعة وأصدر الرئيس الراحل أنور السادات قرار علاج رشدى أباظة تحت مظلة الدولة، وسافر بالفعل ليعود بعد أسابيع وقد تحسنت حالته نسبيا.
فى هذه الأثناء حدثت عدة أمور أولها إصرار رشدى أباظة على عقد قرانه على ابنة عمه السيدة نبيلة أباظة آخر زوجات النجم الكبير، ثانيها وصول التقرير الطبى من لندن الذى يشير إلى أن الحالة سوف تسوء، وأنه ليس أمامه فى الحياة سوى شهر واحد على الأكثر ، وهنا قرر المحيطون به إخفاء هذا التقرير عنه مراعاة لحالته النفسية ، لكن أمه - وهى سيدة إيطالية كانت تضمر كراهية كبيرة للأسرة الأباظية نتيجة موقف الأسرة منها – كان لها رأى آخر، فبحسب ما قاله لى د. جمال العرقان وأكدته أخته السيدة منيرة أباظة فقد تعمدت أمه ترك نسخة من التقرير على باب شقته ، بعد أن طرقت الباب واختفت بسرعة لتضمن عثور ابنها على التقرير، ومن ثم قراءته ، ويضيف د. العرقان أن هذا الموقف كان فى شهر مارس 1980 ، وأن رشدى ثار ثورة هائلة بعد أن قرأ التقرير وعلم بما فعلته أمه ، وأخذ يصب غضبه عليها معلنا تحديه للمرض وأنه سوف يعيش، ومر الشهر الذى حدده التقرير لنهاية حياة الدنجوان ومرت بعده شهور والرجل صامد فى تحديه للمرض اللعين ، لكن مع مرور الوقت أخذت حالته تسوء وتوقف تصوير الفيلم ودخل رشدى أباظة إلى المستشفى فى شبه غيبوبة لتحدث الضجة الكبرى التى شغلت الرأى العام وقتها حين تسللت الإذاعية آمال العمدة إلى غرفة رشدى أباظة وسجلت صوته وهو فى حالة الهذيان ما اعتبره الجميع عدم احترام للأخلاقيات والأعراف الطبية وحرمة المرضى، أما رشدى نفسه فكان فى عالم آخر لخصه لى د. العرقان بأنه كان يسبح فى بحر من الذكريات عن حياته الفنية والأفلام التى قدمها حتى أنه كان يهذى ببعض العبارات التى جاءت على لسان الشخصيات التى مثّلها للسينما، ولم لا وقد أوتى النجم الكبير من النجاح والرصيد الكبير والمشوار الطويل ما يجعله يسترجعه بسعادة وهو فى هذه اللحظات الحاسمة من حياته وكأنه يستمسك بتلك الحياة الصاخبة متحديا وهنه الإنسانى ونهايته المحتومة .
نعم كان يسبق تلك اللحظات الحرجة من حياته مشوار طويل ملىء بالنجاحات والإخفاقات منذ أن بدأ رحلته الفنية عام 1948 ، فقد كانت كل سنة من سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية تؤذن بظهور نجم جديد فى سماء السينما المصرية: عماد حمدى عام 1945 فى فيلم «دايماً فى قلبى»، فريد شوقى عام 1946 فى «ملاك الرحمة»، كمال الشناوى عام 1947 فى «غنى حرب» وشكرى سرحان عام 1949 فى «نادية». أما سنة 1948 فكانت سنة رشدى أباظة بطل فيلم «المليونيرة الصغيرة» من إخراج كمال بركات.. لم يكن كمال بركات اسماً كبيراً فى عالم الإخراج، فهذا هو أحد فيلمين اثنين فقط هما كل رصيده السينمائى، وكأن الرجل جاء إلى السينما فقط كى يقدم لنا هذا النجم الاستثنائى، ولم يكن «المليونيرة الصغيرة» فيلماً مهماً فى مسيرة السينما المصرية ولا حتى فى الأفلام التسعة والأربعين التى ظهرت فى تلك السنة، ولكن يكفى المخرج والفيلم أنهما أعطيا إشارة البدء لإطلاق نجومية واحد من أهم فتيان الشاشة الذين عرفهم فن السينما فى مصر
ولم تكن بداية رشدى أباظة المولود فى الثالث من أغسطس 1926 تنبىء بشىء على المستوى الفنى بالنسبة لهذا الشاب الأرستقراطى الذى دخل مجال التمثيل من باب المغامرة، كان فى هذا الفيلم مجرد ضابط طيار أحب فتاة ذات أصول تركية، ورغم العراقيل التى صادفته ينجح بالنهاية فى الاقتران بها.أما على المستوى الشخصى فقد كان مؤهلاً للتميز والنجومية بفضل وسامة مظهره وبنيانه الرياضى وخفة ظله وحضوره القوى وقدرته الطيبة على الأداء التمثيلى، لا سيما أن أقرانه من الصاعدين مثله فى ذلك الوقت (فريد شوقى وكمال الشناوى ثم شكرى سرحان) كانت تنقصهم على الأقل ميزة من تلك الميزات التى اجتمعت لدى رشدى أباظة.
ومع ذلك جاءت أفلامه الثلاثة التالية مخيبة لآماله، وهى: «ذو الوجهين» إخراج ولى الدين سامح، «أمينة» إخراج ألفريدو السندرينى، و«امرأة فى نار» إخراج فيرنيتشو، فآثر أن يدخل فى مغامرة جديدة بالسفر إلى إيطاليا بحثاً عن فرصة هناك، ولم تقطع الفترة من 1950 إلى 1952 سوى مشاركة واحدة فى فيلم مغمور آخر بعنوان «أولادى».وكانت مغامرة إيطاليا غير المحسوبة خطوة للوراء فى مشوار رشدى أباظة، فحينما عاد إلى مصر كان زملاؤه الذين بدأوا معه قد تجاوزوه بكثير، ففى الوقت الذى كان يبحث فيه عن العالمية كان شكرى سرحان قد وصل لبطولة فيلم مثل «ابن النيل» مع المخرج يوسف شاهين، وفريد شوقى وكمال الشناوى يشاركان فى بطولة فيلم مهم وضخم مثل «أمير الانتقام» مع المخرج هنرى بركات، بالإضافة طبعاً إلى عشرات الأقلام التى قام كل منهم بالمشاركة فيها حتى عام 1952، ومن هنا كان عليه أن يبدأ من جديد ، فشارك فى ثلاثة أفلام بأدوار متواضعة أشهرها دوره المحدود فى فيلم «الأسطى حسن» للمخرج صلاح أبو سيف.. لكن الفائدة التي جناها رشدى أباظة من وراء هذه المشاركات المتعاقبة كانت فى الإعلان عن بقائه الدائم فى مصر وإعادة طرح اسمه على خريطة فن التمثيل مرة أخرى. إلى أن جاءته بدايته الحقيقية على يد المخرج كمال الشيخ عام 1953 في فيلم «مؤامرة» أمام مديحة يسرى ويحيى شاهين، كان الدور لشاب يحاول أن يوقع بين زوجة بريئة وزوجها، وهو كما نرى دور نمطى غصت به معظم ميلودرامات وتراجيديات سينما هذه الفترة، ورغم هذا استطاع رشدى أن يكسبه من روحه ما جعله مختلفاً، فلم يكن مثلا فى تسطح شخصية صلاح منصور حيال الزوجين حسين صدقى وليلى مراد فى فيلم «شاطىء الغرام» لهنرى بركات 1950ولا غلظة فريد شوقى وشره الخالص تجاه صباح وعماد حمدى فى فيلم «ظلمونى الحبايب» لحلمى رفلة 1953 أو هدى سلطان ويحيى شاهين فى «تاجر الفضائح» لحسن الإمام 1953.كان هذا الدور كفيلاً بإعادة إدراج اسم رشدى أباظة على قائمة ممثلى هذه الفترة ، فشارك فى السنوات من 1954 إلى 1958 فى أربعة وعشرين فيلما تعد معظمها من كلاسيكيات السينما المصرية، ويكفى هنا الإشارة على سبيل المثال إلى أفلام «جعلونى مجرما» لعاطف سالم، «حياة أو موت» لكمال الشيخ. و«ارحم دموعى» و«موعد غرام» لبركات و«إسماعيل ياسين فى البوليس»لفطين عبد الوهاب و«تمر حنة» لحسين فوزى، و«ازاى أنساك» لأحمد بدرخان، و«دليلة» لمحمد كريم، و«لا أنام» لصلاح أبو سيف، و«سلطان» لنيازى مصطفى، و«جميلة» ليوسف شاهين.
ويلاحظ على أفلام رشدى أباظة فى هذه الفترة أنها رغم أهميتها فى مسيرة السينما العربية وارتفاع مستواها الفنى لم تصل به إلى مرحلة البطولات المطلقة وانما تراوحت بين الأدوار الثانوية والمساعدة والثانية مما كان يوحى بأن خطه البيانى فى صعود، لكن هذه الأدوار حققت له شيئا آخر أهم من البطولات المطلقة، وأعنى به هذا القدر الهائل من التنوع، فمن الأدوار الشريرة فى «ارحم دموعى» و«لا أنام» و«جميلة» إلى نقيضه فى «تمر حنة»، ومن الشاب خفيف الظل فى «موعد غرام» إلى الرياضى المخلص لصديقه فى «رد قلبى»، وهكذا.
غير أن رشدى أباظة كان بحاجة إلى مخرج يؤمن بقدراته ويستطيع توظيفها ووضعها في الإطار الصحيح، ولم يكن هذا المخرج سوى عز الدين ذو الفقار الذى التقى برشدى أباظة لأول مرة فى فيلم «انى راحلة» عام 1955 فأخذ يتعهده بالرعاية ويزيد من مساحة الدور الذى يمنحه له من فيلم إلى آخر، ومعه كانت تزداد فرصة رشدى أباظة فى النجومية والتألق، حدث هذا فى أفلام: «بورسعيد»، «رد قلبى»، «طريق الأمل»، ثم «امرأة فى الطريق» سنة 1958 الذى كان إيذانا بأن رشدى أباظة قد نضج فنيا إلى الدرجة التى تتيح له بكل اطمئنان الدخول فى مرحلة البطولات الأولى.وبالفعل قرر عز الدين ذو الفقار أن يأخذ بنفسه هذه الخطوة وأن يتحمل نتائجها ، فأنتج وأخرج وشارك مع يوسف جوهر فى كتابة سيناريو وحوار رائعته الخالدة «الرجل الثانى» عام 1959، وإذا كان رشدى أباظة منذ فيلم «مؤامرة» أول أفلامه المهمة وحتى «الرجل الثانى»  وما بعده  هو الشرير الوسيم، المرح الذى لا يشعر ضحيته أنه شرير، فإنك  بعد أن تنتهى الأحداث تجد نفسك كارها لسلوك الشرير ومحبا للفيلم وللممثل الذى أدى ذلك الدور، وهى حالة خاصة ظلت تلازم رشدى أباظة فى كل الأفلام التى أدى فيها مثل هذه النوعية من الأدوار ولم يقاربه فيها إلا عادل أدهم فى عقدى السبعينيات والثمانينيات.
دعونا مثلاً من دور «عزت» عضو العصابة فى فيلم «ملاك وشيطان» (كمال الشيخ 1960) الذى يختطف الطفلة الصغيرة طلباً لفدية كبيرة من أسرتها، فالتحول الذى أحدثته هذه الطفلة البريئة فى شخصية ذلك الشرير ربما كان مع خفة روح رشدى أباظة هو الدافع وراء تعاطفنا كمتلقين مع أحد الأشرار.. ودعونا من شخصية «عبدالحميد زاهر» سيىء الخلق والطباع فى فيلم «فى بيتنا رجل» (هنرى بركات 1961)، والذى تحول إلى النقيض بفضل الروح الوطنية التى بثها المناضل إبراهيم حمدى (عمر الشريف) فى كل من حوله.. لكن ما بالكم بشرير حتى الرمق الأخير من حياته، شرير من أول كادر حتى آخر كادر فى الفيلم، إنه «عصمت كاظم» فى رائعة عز الدين ذو الفقار «الرجل الثانى» سنة 1959، ونقطة التحول الكبرى فى مشوار رشدى أباظة، فقد وضعت اسمه فى مصاف النجوم وجعلته يلقى وراء ظهره بمعاناة وتشتت أحد عشر عاماً قضاها فى دنيا الفن لينطلق كالسهم آخذاً فى طريقه كل من يقابله وواضعاً الآخرين - كل الآخرين - خلفه.فهل منا من كره شخصية الرجل الثانى؟ كيف نجح ذلك الحضور الأخاذ فى أن يجعلنا نستمتع وربما أيضاً نحب رجلاً يرتكب كل جرائم الدنيا من قتل وتزييف وإتجار فى المخدرات وتهريب الدولارات أو الذهب؟ كان رشدى بارعاً فى مشاهد الحركة حينما تكون القوة هى المطلوبة، ومعبراً بالوجه والصوت حينما يستحضر مكره ودهاءه، وهذا كله دون تكلف أو استعراض أو الوقوع فى فخ النمط الراسخ فى الأذهان لشرير الشاشة (زكى رستم، محمود المليجى على سبيل المثال) فأى سحر هذا الذى تفرد به رشدى أباظة؟
وربما يتصور البعض أن نجاح الفيلم وتميز بطله يرجعان إلى حبكة يوسف جوهر وحنكته فى كتابة السيناريو، وإلى قدرة عز الدين ذو الفقار على الإمساك بإيقاع فيلمه، ولو كان هذا صحيحاً - مع الاعتراف بقيمة وقامة يوسف جوهر وعز الدين ذو الفقار - لما حقق رشدى أباظة النجاح ذاته مع آخرين ولما خلق الحالة ذاتها وهو يؤدى أدوار الشر الخالص فى أفلام أخرى، شخصية حسين باشا شاكر مثلاً فى رواية إحسان عبدالقدوس «شىء في صدرى».. هل كانت قدرته على أدائه بهذا الوعى والفهم (سنة 1971) راجعة إلى رأفت الميهى ككاتب سيناريو وكمال الشيخ كمخرج؟ لنفرض أن الصدفة تكررت مرتين فى «الرجل الثانى» و«شىء فى صدرى» فهل تكررت للمرة الثالثة وهو يؤدى دور «نعيم» المحتال الذى يسعى للاستيلاء على ثروة الأرملة الساذجة - سناء جميل - فى فيلم «الشيطان والخريف» سنة 1972؟ إنه هذه المرة يتعامل مع كاتب سيناريو - رأفت الخياط - لم يكتب فى حياته سوى هذا الفيلم، ومخرج - أنور الشناوى - رصيده السينمائى كله سبعة أفلام وأشهرها وأنضجها «السراب» 1970، وبقيتها من نوعية «13 كدبة وكدبة» و«الحساب يامدموازيل».. ومن هنا فالفضل فى المقام الأول يعود إلى موهبة رشدى أباظة وشخصيته الخاصة التى يلبسها للدور الذى يلعبه.
رشدى أباظة إذن من النجوم الذين يصنعون أدوارهم وليس كالآخرين الذين ترتبط نجوميتهم بأدوار بعينها، ودعونا نختبر صحة هذه المقولة: فى فيلم «الطريق» (حسام الدين مصطفى 1964) يلعب رشدى أباظة دور «صابر»، ذلك الشاب الذى يتحول فى رحلة بحثه عن أبيه إلى قاتل بسبب غواية امرأة وشهوة حب المال، وفى فيلم «وصمة عار» (أشرف فهمى 1986) يقدم نور الشريف الشخصية ذاتها، فأيهما كان الأبقى فى الذاكرة السينمائية والأكثر قدرة على التأثير؟ربما يرى البعض أن القديم دائماً هو الأقوى، وأن سينما الأبيض والأسود لها سحرها الخاص، ومن هنا تفوق فيلم «الطريق» وأبطاله على «وصمة عار» وأبطاله.. فما الرأى لو عكسنا الترتيب الزمنى؟ فى فيلم «المرأة المجهولة» (محمود ذو الفقار 1959) يقدم عماد حمدى دور الرجل الأرستقراطى الوقور الذى يسىء الظن بزوجته المظلومة، ويحرمها بقسوة من مجرد مشاهدة ابنها الوحيد رغم مرور السنين الطويلة، ثم يأتى رشدى أباظة بعد تسع عشرة سنة ليعيد تمثيل الشخصية ذاتها فى فيلم «وضاع العمر يا ولدى» إخراج عاطف سالم ومع التفرقة فى المقارنة بين الفيلمين التى هى بالتأكيد فى صالح الأول بوجه عام، وبالمقارنة بين أداء كل من عماد حمدى ورشدى أباظة فى الفيلمين فإن الكفة تميل لصاح الثانى الأكثر خبرة وتمرساً فى التحول من الطيبة والوداعة إلى حدة الطبع وغلظة السلوك بعكس عماد حمدى الذى ظل لسنوات طويلة رهين شخصية الرجل الطيب المسالم رمز الخير فى مواجهة كل رموز الشر.
ورغم هذه القدرات الخاصة لرشدى أباظة ونجاحه اللافت مع كل الذين عمل معهم فإنه مدين بجانب كبير من شعبيته ونجوميته إلى المخرج فطين عبدالوهاب، فقد مارس هذا المخرج الفذ مع رشدى أباظة واحدة من أجمل ألعابه السحرية بتحويل الممثل المحسوب على الأداء التراجيدى إلى كوميديان من طراز فريد (أمينة رزق ويوسف وهبى وفاتن حمامة وشادية على سبيل المثال) صحيح أنه لم يجد فى ذلك صعوبة مع رشدى أباظة الذي يتمتع أساساً بخفة الروح، وصحيح أنه لم يحوّله تماماً من النقيض للنقيض إلا أنه يكفيه أنه اختاره لمجموعة من أشهر أدواره استطاع من خلالها أن يبرز طاقاته الكاملة والكامنة ككوميديان: «مراد» متعدد الزوجات فى «الزوجة 13 - 1962» الطبيب البيطرى فى (آه من حواء - 1963) «سامى» مهندس البترول فى «عروس النيل - 1964» «حسنى» طبيب الأسنان فى «نص ساعة جواز» 1969ولم يعتمد رشدى أباظة حتى فى أدواره الأخرى ككوميديان (جناب السفير وشقاوة رجالة، والمجانين فى نعيم على سبيل المثال) على كوميديا اللفظ أوالإفيهات» التقليدية وإنما كان اعتماده على الموقف المكتوب له سلفاً، وعلى أدائه الحركى وبعض التلون فى الصوت كما فى مشهده المتكرر فى فيلم «الزوجة 13» وهو يفتح الباب لزوجاته السابقات ثم رقصته الشهيرة وسطهن، وأيضاً فى مشهده المتكرر فى الفيلم ذاته وهو يقرأ لشادية فى كتاب الحكايات محاولاً تهدئتها حتى تنام، وكذلك مشهده الشهير فى فيلم «آه من حواء» وهو يحاول إجبار لبنى عبدالعزيز على تناول الدواء بنفس الأدوات والأسلوب الذى تعامل بهما مع الحيوانات.
على أن رشدى أباظة لم يكن فقط ذلك الشرير المحبوب أو الكوميديان صاحب المواصفات الخاصة، فقد كان أيضاً وبنفس الكفاءة الرومانسى المحب في «لقاء فى الغروب» (سعد عرفة 1960) و«القبلة الأخيرة» (محمود ذو الفقار 1967) و«الحب الضائع» (بركات 1970) وكذلك هو أحد نجوم أفلام الحركة كما فى أفلام: صراع فى الجبل والشياطين الثلاثة والشجعان الثلاثة لحسام الدين مصطفى، وصراع المحترفين (حسن الصيفى 1969) وساعة الصفر (حسين حلمى المهندس 1972). كما كانت له إسهاماته الواضحة فى مجال الفيلم الوطنى (رد قلبى - 1957، لا وقت للحب - 1963، جريمة فى الحى الهادى - 1967، غروب وشروق 1970) وأيضاً الفيلم التاريخى (وا إسلاماه - 1961، شهيدة الحب الإلهى - 1962، أميرة العرب - 1963)، والفيلم الاجتماعى (المراهقات - 1960 - عدو المرأة - 1966، عالم عيال عيال - 1976)، ورغم أنه حافظ على هذا التنوع فى سنواته الأخيرة فإنه أكسب أدواره بعداً إنسانياً أعمق منذ أن وصل إلى نقطة التحول الأخيرة فى مشواره بفيلم «حكايتى من الزمان» (حسن الإمام 1973) وهو الفيلم الذى رسخ لمرحلة النضج العمرى التى كان قد مهد لها بأدوار متفرقة كما فى «نار الشوق» (محمد سالم 1970)، و«ابنتى العزيزة» (حلمى رفلة 1971) وهكذا بدا رشدى أباظة - فى مرحلته الأخيرة - أمام سعاد حسنى فى «أين عقلى» 1974، ونادية لطفى فى «أبدا لن أعود» 1975، ووردة فى «آه يا ليل يا زمن» 1979، ونجوى إبراهيم فى «خائفة من شىء ما» 1979، وصولاً إلى آخر أفلامه «الأقوياء» أمام نجلاء فتحى ومحمود ياسين، وهو الفيلم الذى لم يكمل تصويره، وتم عرضه عام 1982 بعد مرور عامين كاملين على وفاته فى السابع والعشرين من يوليو 1980 ليتولى الفنان صلاح نظمى استكمال دوره والدبلجة الصوتية للمشاهد التى كان قد صوّرها .
اللافت أنه بعد رحيل رشدى أباظة بأعوام قامت والدته بنقل رفاته من المقبرة الأولى التى دفن فيها إلى مقبرة أخرى فى قطعة الأرض التى كان رشدى قد اشتراها بنزلة السمان  وذلك كى تمنع دخول قطعة الأرض هذه فى تركة الفنان الراحل وحرمان أسرته من الميراث فيها .