1-4-2023 | 15:15
رشا صموئيل
نشأت وترعرعت فى بيت يسوده الحب والود ،وأكثر ما كان تميزه العلاقات الرائعة التى تجمعه بالجيران والأحباب ،الله حبانى بأحضان تنبض بحنان دافىء هى نفس الأحضان التى باركت زواج أبى من أمى ، هى جدتى الجميلة مريم والدة أمى التى لعب القدر أن أترعرع فى أحضانها بمنزلها الذى كان يطل على النيل بمنطقة منيل الروضة ،بلا مبالغة عشت فى هذا المنزل أجمل أيام حياتى ،طفولة مميزة وعندما أتحدث عن التميز لم أقصد الثراء أو طلباتى المجابة أو اقتناء الكثير من الألعاب على العكس ولكن ما أقصده هو ماعشته من فترة ثرية بالمحبة والتسامح والعطاء والبذل من أجل الآخرين ،جدتى مريم كانت مثلا وقدوة يحتذى به كانت شخصية اجتماعية لأبعد حدود ،تملك فن التعامل مع الآخرين ،لديها من الحكمة والحنكة مالايملكه كثير من المتعلمين وعلمت مع التقدم فى العمر، إنها موهبة من الله يخصها لبعض البشر،كانت جدتى سيدة جميلة الشكل والقلب يلتف حولها الأصحاب والمعارف و الأحباب ،أيضا أمى كان لها الكثير من الصديقات،بالفعل لديهما كاريزما وجاذبية خاصة جدا، فأتذكر أن بيتنا كان لايخلو من الزيارات سواء العائلية أو زيارات جيراننا المسلمات المحجبات تلك الزيارات التى تركت واقعا محببا فى نفسى ،كان تفوح منها نسمات وعبير المحبة الحقيقية دون زيف أو مجاملات ، كنت أحضر مجالستهن فى صالون بيتنا و هن يتجاذبن أطراف الحديث الذى لايخلو من الضحكات أثناء احتساء القهوة بمتعة كبيرة ،كنت أشعر بحب كبير بينهن ، و كان الوقت يمضى سريعا دون أن نشعر إلى أن نتفاجأ بأذان العصر الذى يضطرهن للاستئذان والمغادرة كى يلحقن بالصلاة وهذا حدث مرارا وتكرارا ،إلى أن جاء اليوم الفارق فى حياتى الذى تعلمت منه الكثير وكان عمرى وقتها 8 سنوات ، فى هذا اليوم جاءت صديقات أمى وجدتى كعادتهن لزيارتنا و عندما وقع على مسامعنا الأذان إذ تفاجأنا جميعا بجدتى تخرج لهن سجادة صلاة حمراء اللون ،تلك السجادة التى لاأستطيع نسيانها من ذاكرتى ،أعى تماما أدق تفاصيلها كما مازلت أعى و أتذكر ملامح الفرحة على وجوهن المندهشة بوجود سجادة صلاة فى بيت مسيحى وكيف كن نضحك جميعا لأن جدتى أغلقت عليهن حجة مغادرة المنزل ، بالفعل رأيتهن بعينى يؤدين الصلاة فى بيتنا ويقولون الله أكبر و يركعن على السجادة الحمراء التى سميتها بعد ذلك بسجادة المحبة وبهذا التصرف الفطرى من قبل جدتى ازدادت مشاعرالمودة والمحبة ، لا أستطيع أن أصف لكم كيف عشت مرحلة ذهبية بكل ماتحمله من معنى و أجمل ما فى بيتنا أنه كان يخلو من الكلام عن الأديان تماما وسأسرد عليكم حكاية مضحكة خير دليل على ذلك ،فعندما التحقت بالمدرسة وكنت أولى حضانة تقريبا وكنت أبلغ من العمر خمس سنوات فأتت حصة الدين المسيحى والمفروض فى هذه الحصة أن نتلقى الحصة خارج الفصل لعددنا الأقل بالنسبة لعدد أصحابى المسلمين ،ورأيت واحدا تلو الآخر يخرج فى الوقت الذى كنت أجلس بمقعدى بكل ثبات وثقة غير مهتمة إلى أن جاءت مدرسة الدين الإسلامى وسألتنى عن اسمى قلت لها رشا صموئيل فأخذتنى من يدى وأخبرتنى بأنى مسيحية ولابد أن أخرج مع أصحابى لأتلقى حصة الدين المسيحى ،لاتتعجبوا هذا هو البيت الذى تربيت فيه على المحبة التى أذابتنى وجعلتنى لا أميز ديانتى ،ربما تفهمون قصدى أكثر فى السطور القادمة ، جدتى كانت محبة لجميع الناس دون تميز ،وأتذكر جيدا أنها كانت تصنع كميات كبيرة من كعك العيد لكى توزع على الجميع فى محبة غامرة وأيضا كانت ماهرة فى عمل المعجنات والفطائر ومنها فطير الملاك ميخائيل لأنه كان شفيعها فكانت تخبز كميات كبيرة وتجعلنى أنا وأختى نوزع على الجيران والأصحاب الذين كانوا ينتظرونه بسعادة من العام للعام لمذاقه الطيب إلى أن جاء عام من الأعوام لاأستطيع أن يتوارى من ذاكرتى ،فتصادف نفس توقيت الصيامين معا صيام رمضان مع الصيام الكبير لدينا بالكنيسة وهنا حدث مالم أكن كنت أتوقعه حيث جدتى مريم قررت أن تصوم رمضان تكاتفا مع أحبائنا وأصدقائنا المسلمين وعند ضرب مدفع الإفطار كانت تستكمل الصيام الكبير بالزيت والحقيقة الأيام المباركة التى نعيشها هذا العام معا يتكرر هذا المشهد المخلد فى ذاكرتى ،ومن الجميل أن والدتى كانت تشترى لى ولأختى فانوس رمضان كل عام وكنا نعيش كل الأجواء الجميلة للشهر الكريم ، نعتاد على تعليق زينة رمضان من فوانيس، الأقمشة التراثية الملونة، حبال الإضاءات المبهجة.. كلّها مظاهر تعكس عفوية التعبير عن السعادة بحلول هذا الشهر والأجواء الروحانية التى يشيعها، بالفعل شهر رمضان هو شهر الفرحة والسعادة على المصريين جميعا مسلمين ومسيحيين، والمصريون بصفة خاصة يُقدسون هذا الشهر الفضيل، ويستقبلونه بالزينة والفوانيس، وهى من الأشياء المشروعة لإدخال البهجة على الأطفال، أيضا كان أبى يجعل المسحراتى ينادى باسمى أنا وأختى أعشق صوته وهو ينادى بنغماته المعتادة المحببة لدى مسامعى وهو يقرع الطبلة (اصحى يانايم وحد الدايم رمضان كريم) ،هذا غير الأكلات الجميلة الشهيرة التى نلتف حولها فى هذه الأيام المباركة مثل القطايف والكنافة التى كنت أراقبها وهى تصنع فهى قصة عشق لاتنتهى ، شهر رمضان مرتبط لدىّ بكثير من الذكريات الجميلة فهو شهر الخير والبركات، شهر الغفران والفرح ، شهر مبارك كريم فيه سر عظيم ،بالفعل عشت أجمل سنوات عمرى بمنطقة منيل الروضة، سنوات مفعمة بالحب والإخاء والعشرة الطيبة التى أذابت الاختلافات وجعلتنى أحترم الديانات السماوية السامية وأحترم العقائد لتكون اللغة المشتركة بين الناس هى المحبة والرحمة والتسامح ، فتعلمت أن الصداقات الحميمة لا تنشأ بالصدفة لكن الصداقة المتينة تستلزم الجهد و التضحية فتعلمت أن الحياة بالحب تجعل الإنسان يشعر بأنه طائر ويحلق فى السماء ، لأنه بالحب تتغير نظرة الإنسان لكل شيء يوجد حوله فيشعر وكأن الحياة أصبح لها شكل مختلف أصبحت مزهرة بالألوان.