الخميس 9 مايو 2024

رحلة ٤٠٤.. بين سقطات الماضي وأحلام التطهر.. فيلم يستحق التأمل

27-4-2024 | 13:50

من الهام أن تشاهد فيلما قيل عنه أنه مهم والأهم أن تجده بالفعل مهم. أتحدث هنا عن فيلم "رحلة ٤٠٤" و هو فيلم يستحق المشاهدة ربما لأكثر من مرة حيث تعدد القراءات التي يمكن أن يحتملها سيناريو العمل، فهو من نوعية الأفلام التي تفرض على متلقيها متعة التأمل فيما يشاهده ، بل وما بين سطور ما يشاهده. في الفيلم هنا ، و في أولى درجات التعاطي معه يطرح سؤالا تدور حوله أحداث الحدوتة ، بل مجموعة الحواديت التي يتناولها العمل ، و ان كانت تبدو كسكتشات منفصلة ولكنها متصلة .. تروي قصة حياة البطلة عبر بناء درامي محكم قوي شديد التماسك ينتقل بك من قصة لأخرى انتقال ناعم.. صاغه مؤلف بدرجة مبدع ، هو كاتب الفيلم محمد رجاء ، تمسك بخيوط الحواديت بطلة العمل وهي هنا "غادة" أو النجمة الجميلة منى زكي في دور تفوقت فيه على نفسها وظهرت في أنضج و أبهى حالاتها ، و هو ما تتطلبه هذه الشخصية من أداء قوي حتى انك تخضع للمشاهدة و أنت تسأل نفسك.. هل أنت متعاطف معها أم العكس ؟ فمن خلالها وهي الشخصية المحورية للفيلم .. يدور التساؤل الذي قد يبدو كالسهل الممتنع في اجابته.. حيث.. هل التوبة والرجوع الى الله هو قرار سهل ؟ أو في الأصل هل هو مجرد قرار يتحقق بإنتهاء ممارسة فعل معين أو سلوك ما ؟ هل الأمر بهذه البساطة ؟ ام ان التوبة الحقيقية لا تكون الا بإختبار حقيقي وقوي وهو المحك الذي تظهر فيه النية الصادقة للتوبة ، إختبار يمر به الإنسان حيث يوضع تحت ضغوط قد تضطره او تدفعه في لحظة ما أو تثنيه اذا جاز التعبير عن المضي قدما في طريق هذه التوبة فينزلق ويعود ليسقط ، او يقاوم و يصمد و يتمسك بما نوى عليه قلبه و عقد عليه عزمه . الفيلم هو رحلة نستطيع أن نطلق عليها شكل من أشكال التطهر و مواجهة الناس ، و مواجهة الذات بتعريتها أمام أقرب الأقربين ، في حالة من المكاشفة التي بدت واضحة و عميقة عبر جميع الحوارات التي جاءت قوية جدا بين البطلة و أبطال العمل بشكل عام . هنا نجد غادة او منى زكي كما ذكرنا وهي تعمل في مجال التسويق العقاري وترتدي الحجاب وتقوم بحجز رحلة الحج مع والدها الى الأراضي المقدسة ، و من خلال مكالمة هاتفية مع شقيقتها يدور الحديث حول والدتهما فتتحدث عنها غادة بشكل فج للغاية .. ما يعكس علاقة يشوبها الغموض ، لتفاجئ غادة بوجود والدتها أمام مقر عملها لتدور بينهما في الشارع مشاجرة ، حيث تطالبها الأم بأموال بصورة عنيفة جدا وتنتهرها غادة وتفر هاربة منها ، فتجري الأم وراءها لتصدمها سيارة ميكروباص وهنا تلتفت غادة الى الوراء لتجد والدتها ساقطة في الشارع بين الحياة و الموت ، تنقلها الى المستشفى وتبدو هنا لحظة من لحظات الصحوة أو ربما تأنيب الضمير أو الشعور بالذنب أو الرغبة في استكمال صورة حسنة أمام نفسها وهي ذاهبة الى بيت الله الحرام ، فتبدأ في رحلة بحث عن أموال طائلة لعلاج والدتها الراقدة في المستشفى ، و من خلال رحلة البحث هذه نكون نحن كمشاهدين أمام رحلة وقصة حياة هذه البطلة التي تفتش في دفاترها القديمة لتبحث عن كل من يمكنه ان يقرضها هذه الأموال وحيث تفشل في بيع سياراتها أو محل تملكه هي وشقيقتها وهذه هي السبل الحلال للعثور على أموال ، فتقودنا ذكريات ماضيها إلى استكشاف رحله حياتها أو ربما سقوطها حيث نبدأ في التعرف على العلاقات المحيطة بها أو التي هي كانت محورها ، فبداية هي كانت طالبة جامعية استسلمت لمشاعرها التي قادتها للسقوط في الخطيئة مع زميلها النجم محمد ممدوح الذي تركها و فضل الزواج من فتاة أخرى لم تستسلم لهذه السقطة ومن هنا تبدأ العقدة النفسية لدى غادة ومن هنا أيضا يبدأ طريق السقوط في يد رجل تلو الأخر حتى نكتشف أن هذا الأمر كان يدور بموافقة والدتها بل و والدها أيضا اللذان لا يهمهما شيئا سوى الأموال حتى ولو على حساب ابنتهما وشرفها وسمعتها ، ولما كانت غادة قد احترفت امتهان هذه المهنة ، ففكرت في الذهاب إلى تلك المرأه التي كانت تيسر لها هذا الأمر وتلعب دورها الفنانة شيرين رضا التي قدمت شخصية شهيرة بإمتياز حيث ساومتها في العودة إلى الطريق الذي كانت قد تابت عنه في مقابل الحصول على أموال بل ولأنها كانت قد سهلت لها العمل في المجال العقاري عن طريق أحد معارفها ، فقد أمرته بطردها من العمل حتى تجردها من كل مصدر للرزق الحلال ، كي تعود إلى نفس الطريق لا سيما وأن أحدهم قد طلب من شهيرة أو شيرين رضا قضاء وقت مع غادة ، وهنا ترفض غاده الاستسلام والعوده إلى ذات الطريق . تعود غادة مجددا للجوء إلى أحد معارفها وهو هشام أو الفنان محمد علاء الذي يعمل هو الأخر في مجال التسويق العقاري ويعرض عليها أن تسهل له بيع قطعة أرض عليها خلاف قانوني ولكن اذا تمت البيعة سيكون لها عمولة كبيرة ، تعترض غادة لأنها ترى في هذا الأمر نصب على المشتري ، وكما رفضت العودة الى طريق شهيرة ، ترفض أيضا أن تنصب على أحد عملائها . وبينما هي ذاهبة لاستلام تذاكر الطيران من شركة السياحة ، يتعطل المصعد فتضطر إلى النزول على السلم، فتجد سيدة مسنة تسقط أمام باب شقتها، فتعينها على الدخول وعندما تأتي لها بالدواء من حجرة النوم، تجد علبة مصوغات هذه المسنة ، فتتردد غادة بين سرقتها لتحل بها أزمتها ام لا ، ويظل هذا المشهد معلقا حتى نكتشف في النهاية أنها استسلمت لخيار السرقة وكأنها الأسهل بين الخيارات، فإما أن تسرق أو تنصب أو تعود لطريقها في الماضي ، و لكن كان في نيتها أن تعيد الذهب للمرأة اذا ما نجحت في بيع قطعة الأرض التي فضلت أيضا خيار اللجوء إليها وكأنها أهون المحرمات . و نعود مع رحلة غادة التي تلجأ أيضا لمساعدة صديقها القديم خالد الصاوي الذي تذهب معه لشقته ليقرضها المال فتكتشف أنه هو الأخر يعاني من صدمة نفسية حيث خانته زوجته مع شريكه ونصبا عليه فلم يعد يملك سوى شقته والتي يقرر أن يهبها لها ويذهب إلى الحمام لينتحر ،وهنا أيضا توضع غادة في محك أما ان تتركه يموت وتحصل هي على الأموال من بيع الشقة ، أو أن تساعده.. فتختار أن تنقذه ليعود إلى الحياة . و أخيرا تذهب غادة في في ذروة من مشاهد الفيلم إلى طليقها طارق أو النجم " محمد فراج" و هو ما تكشف عنه أحداث اللقاء معه في فيلته في المكان المهجور الذي اختار أن يعيش فيه بعد خروجه من السجن إثر قضية مخدرات، طلبت على إثرها غادة الطلاق منه وهو سجين ، لكنه يعدها بأن المحامي الخاص به سيأتي بالأموال في الطريق وعندما يتأخر وتشك غادة في الأمر، يتضح بالفعل انه يحتجزها في فيلته في رغبة منه ل للتعامل معها كما كانا و هما زوجين ،فترفض بشدة وتنتهره وتفر هاربة . ومن هنا يظهر أمامها المحك الحقيقي للعمل كما ذكرنا ، حيث كل السبل ضاقت في وجهها فلا سبيل أمامها إلا السقوط في بئر الحرام مرة أخرى ، فتذهب إلى شهيرة ، التي تقيم حفلا كبيرا للفتيات ، تذهب غادة لتجد نفسها في غرفة أمام رجل، لتكشف مفاجأة الفيلم ، وأنه هو طليقها " محمد فراج" والذي تأكد أنها بريئة ولم تستسلم له حتى مع ضغوط المال ولكنها أيضا عادت من بوابة أخرى لطريق شهيرة الخطأ ، وفي جملة هي مفتاح العمل تقول له و هي تدعوه ليتوب هو الأخر، حيث كان قد قتل أمه التي كانت بدورها قد سقطت هي الأخرى في بحر خيانة والده ما دفعه الى قتلها، فتدعوه منى زكي للذهاب معها الى الحج والتوبة ، فيشك تماما في قدرته على هذه التوبة ولكنها تقول له :" ربنا بيسامح ، و لازم نحاول ، وما قدمناش غير أننا نحاول . يمنحها فراج المال الذي تريده دون أن يلمسها و يتركها لتمضى لعلاج والدتها و لرحلة الحج أيضا . و ختاما كل التحية والتقدير لصناع هذا العمل الذين أجادوا في أدوارهم سواء على مستوى التمثيل او كل تفاصيل العمل السينمائي بقيادة المخرج المتميز هاني خليفة الذي استطاع أن يقدم صورة حية ناطقة لتفاصيل سيناريو نابض، فاستحق أن يحصل الفيلم منذ أيام على جائزة أفضل فيلم مصري في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الثامنة .