13-12-2025 | 13:35
طه حافظ
هناك فنانون يمرون أمامنا مروراً عابراً، يتركون أدواراً تذكر أو تنسى، وهناك سناء جميل.. تلك التى كسرت القاعدة وصنعت لنفسها مكاناً لا يشبه أحداً، موهبة استثنائية قادرة على تحويل الورق إلى نبض، والشخصيات إلى بشر يتنفسون أمام أعيننا، لم تعتمد يوماً على جمال الشكل فقط، بل على صدق الأداء وعمقه، حتى أصبحت أيقونة للأدوار المركبة والصعبة، وواحدة من أهم ممثلات جيلها، ويكفى أن يصفها عميد الأدب العربى طه حسين بقوله: «ليس لأحد على تمثيلها مثيل»، من ملوى بالمنيا إلى القاهرة، ومن المدارس الفرنسية إلى خشبة المسرح، شقت سناء جميل طريقها بعناد وشغف، متحدية الرفض العائلى فى البداية ومعلنة حضوراً فنياً لا يخطئه أحد.
وفى ذكرى رحيلها التى تحل هذا الشهر، نتناول جانباً من سيرتها ومسيرتها التى صنعت واحدة من أنقى التجارب فى تاريخ الفن المصرى.
ولدت سناء جميل فى 27 أبريل 1930 بمركز ملوى فى محافظة المنيا، ثم انتقلت مع أسرتها إلى القاهرة حيث التحقت بمدرسة فرنسية وظلت فيها حتى المرحلة الثانوية، ورغم ضعف إتقانها اللغة العربية آنذاك، فإنها أصرت على التدريب الجاد لتحسين لغتها حتى تتمكن من دخول عالم التمثيل، وهو الأمر الذى كان يتطلب موافقة ولى الأمر، وإدراكاً منها لرفض أسرتها المحتوم، وقعت بنفسها الأوراق اللازمة للالتحاق بالمعهد العالى للفنون المسرحية، فكان القرار سبباً فى قطيعة عائلية مؤلمة.
وجدت دعمها الحقيقى لدى زكى طليمات الذى وفر لها سكناً فى بيت الطالبات ومكاناً فى فرقة «المسرح الحديث»، وبعد تخرجها عام 1953، انضمت إلى الفرقة القومية حيث تميزت بإجادتها الفرنسية والفصحى، وأسند إليها طليمات أول أدوارها الكبرى فى مسرحية «الحجاج بن يوسف»، فلفتت الأنظار بجرأتها وقدرتها على تجسيد شخصية «غزالة» بلغة عربية لم تكن سهلة عليها، لتبدأ ملامح موهبة استثنائية فى الظهور.
خطوات سينمائية أولى
ومع بزوغ موهبتها على خشبة المسرح، بدأ المخرجون السينمائيون يلتفتون إلى حضور سناء جميل، فعرضت عليها مجموعة من الأدوار الصغيرة التى شكلت بدايتها على الشاشة الكبيرة.
شاركت فى أفلام متنوعة مثل «طيش الشباب»، «آدم وحواء»، «الإيمان»، «سلوا قلبي»، «شم النسيم»، «بشرة خير»، «حرام عليك»، و«بلال مؤذن الرسول»، كما ظهرت فى «شريك حياتي»، «أنا وحبيبي»، «فى شرع مين»، «عبيد المال»، و«نافذة على الجنة».
وتتابعت مشاركاتها فى أعمال أخرى مثل «كدت أهدم بيتي»، «مرت الأيام»، «كدبة إبريل»، «يا ظالمني»، «الميعاد»، «أهل الهوى»، «إسماعيل يس فى متحف الشمع»، «شياطين الجو»، «المجد»، و«لن أبكى أبداً»، لتضع بهذه الخطوات الأولى حجر الأساس لمسيرتها السينمائية اللاحقة.
اختيار غير المسار
قادتها الصدفة إلى أهم أدوارها حين كان المخرج صلاح أبو سيف يبحث بلا جدوى عن ممثلة تقبل تجسيد شخصية «نفيسة» فى فيلم «بداية ونهاية»، أول روايات نجيب محفوظ التى تحولت إلى السينما، فقد اعتذرت فاتن حمامة عن الدور لجرأته وصعوبته، ليظل أبو سيف فى مأزق حقيقى حتى أخبره مؤلف الفيلم صلاح عز الدين بوجود ممثلة شابة على المسرح قد تكون «نفيسة» التى يبحث عنها.
ذهب أبو سيف لمشاهدة سناء جميل، فاندهش من قوة حضورها وصدقها الفنى، وقرر ضمها إلى العمل رغم اعتراض فريد شوقى الذى خشى أن يغامر بفيلم بلا نجمة معروفة، خصوصاً أن سناء لم تقدم فى السينما حينها سوى أدوار صغيرة، لكن المخرج طمأنه بثقة قائلاً إنها ستحمل الدور كما لم تفعل غيرها.
انبهار غير متوقع
كانت سناء جميل غارقة فى سعادتها وهى تستعد للوقوف أمام كاميرا صلاح أبو سيف وبجانب فريد شوقى، غير مدركة أنه كان متحفظاً على مشاركتها فى الفيلم، لكن هذا التحفظ ذاب تماماً مع أول مشهد أدته أمامه؛ إذ انقلب رأيه من الرفض إلى الانبهار، وبعد عرض «بداية ونهاية» عام 1960، أعلن فريد شوقى صراحة أنه لم يعد يتخيل أى فنانة أخرى قادرة على تجسيد شخصية «نفيسة» بهذا العمق والإقناع، مؤكداً أن أداءها تجاوز كل توقعاته.
رهان جديد ناجح
قدمت سناء جميل شخصية «نفيسة» بتألق لافت، رغم أن ملامح الدور بعيدة تماماً عن شخصيتها الحقيقية؛ فهى لم تكن تلك الفتاة المنكسرة التى تجرفها الظروف، بل امرأة تصنع طريقها بإرادتها، وبعد أن تبدل رأى فريد شوقى لصالحها، شعر صلاح أبو سيف بنشوة الانتصار لرهانه الصائب عليها، تماماً كما راهن فى الفيلم نفسه على صلاح منصور فى دور «سليمان ابن البقال».
ويبدو أن نجاحهما المزدوج دفعه لتكرار التجربة فى فيلم «الزوجة الثانية»، حين ضمهما إلى جانب سعاد حسنى وشكرى سرحان، ولم تخذله سناء جميل مرة أخرى، إذ برعت فى تجسيد شخصية «حفيظة» زوجة العمدة «عتمان»، المحرومة من الإنجاب، والتى تدفع زوجها إلى الزواج بفتاة فقيرة طمعاً فى وريث، فتصنع أداءً يعد اليوم من أقوى أدوارها على الشاشة.
بصمة لا تنسى
واصلت سناء جميل تألقها على مدى سنوات طويلة، تاركة بصمة سينمائية يصعب تكرارها، وقد اختار النقاد 4 من أفلامها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية عام 1996، تأكيداً لمكانتها الفنية الراسخة.
شاركت عام 1952 فى فيلم «زينب» المأخوذ عن قصة حسين هيكل باشا، بسيناريو عبدالوارث عسر، وبطولة راقية إبراهيم ويحيى شاهين، ثم قدمت أحد أهم أدوارها عام 1960 فى «بداية ونهاية»، مجسدة شخصية «نفيسة» فى معالجة سينمائية لرواية نجيب محفوظ، بإخراج صلاح أبو سيف.
وفى 1965 شاركت فى فيلم «المستحيل» تأليف د.مصطفى محمود وإخراج حسين كمال، إلى جانب نادية لطفى وكمال الشناوى.
أما حضورها الطاغى فجاء من جديد عام 1967 فى فيلم «الزوجة الثانية»، حيث أبدعت فى دور «حفيظة» زوجة العمدة عتمان، لتؤكد مرة أخرى أنها واحدة من أهم ممثلات جيلها وأعمقهن تأثيراً.
إبداع بلا حدود
لم تتوقف موهبة سناء جميل عند السينما وحدها، بل امتد عطاؤها إلى خشبة المسرح، حيث قدمت أعمالاً بارزة مثل «ماكبث»، «الحجاج بن يوسف»، «ابن جلا»، «الدخان»، «رجل الأقدار»، «كباريه»، «زيارة السيدة العجوز»، «شهرزاد» و«الحصان»، مؤكدة قدرتها على التنقل بين أنماط فنية متعددة بكفاءة لافتة.
كما برعت فى الدراما التليفزيونية، وشاركت فى مسلسلات مؤثرة من بينها «أزواج لكن غرباء»، «عاد النهار»، «حصاد الحب»، «خالتى صفية والدير»، «البر الغربي» و«ساكن قصادي»، بينما حفر دورها فى «الراية البيضاء» فى شخصية «فضة المعداوي» مكانة خاصة فى ذاكرة الجمهور.
وفى حياتها الخاصة، عاشت سناء جميل قصة حب هادئة ومستقرة مع زوجها الكاتب والصحفى لويس جريس، الذى دعم قرارها بالتفرغ للفن، وظلا معاً أكثر من 41 عاماً، وبعد رحيلها، وثق ذكراها بفيلم تسجيلى حمل عنوان «حكايات سناء».
تكريم.. وختام مأساوى
نالت الفنانة سناء جميل خلال مسيرتها العظيمة العديد من الجوائز والتكريمات، بما فى ذلك جوائز من وزارة الثقافة ووزارة الإعلام، إضافةً إلى وسام العلوم والفنون عام 1967، كما نالت تكريماً خاصاً فى مهرجان الأفلام الروائية عام 1998، تقديراً لإسهاماتها الفنية الكبيرة.
ومع نهاية حياتها، واجهت سناء جميل تحدياً صحياً كبيراً، حتى وافتها المنية فى 22 ديسمبر 2002، تاركة إرثاً فنياً خالداً فى ذاكرة السينما والمسرح المصرى.