ينقب فيها : عادل عبد الصمد
منذ أكثر من ثمانية عقود، وتحديداً فى عام 1934 وفى يوم السابع من رمضان كتب الاديب الساخر المستنير الشيخ عبد العزيز البشرى مقالا بمجلة «المصور» فحواها حزنه لاختفاء روحانيات الشهر الكريم من الشوارع والبيوت بسبب التحضر الذى سيطر على شرائح كبيرة من المجتمع المصرى، فبعد أن كانت الشوارع والحوارى والأزقة تتزين لاستقبال الشهر الكريم يرى البشرى ان الناس هجرت بيوتها لقضاء الليل فى المقاهى وان مصر تغيرت فى عاداتها وتقاليدها الموروثة ذات التراث الفريد.
طاف بذهنى وأنا اقرأ مقالة كاتبنا الساخر الشيخ البشرى ان اكتب قطوفاً من هذا الموروث التراثى الذى يحثنا البشرى على اهمية الحفاظ عليه خوفا من ضياعه مع الهجمات الشرسة لمستحدثات العصر، وبرغم ما سجله كاتبنا فأرى أنه مازال مع حلول شهر رمضان الكريم شهر الصيام من كل عام تضىء القلوب وتصفو النفوس وتتلألأ النجوم فى تسابيح روحانية تضفى على الحياة البهجة والسرور، وفى هذه الاجواء الروحانية السامية التى تحيط بنا فى رمضان يتسابق الناس فى أعمال الخير.. والمصريون على أرض المحروسة يحتفلون كل بطريقته، فهناك الاحتفالات الشعبية فى القرى المصرية وفى حوارى وأزقة قاهرة المعز لدين الله الفاطمى وسط فرحة البسطاء بمهرجان الخليفة الفاطمى حيث كان يخرج فى وسط مهرجان من الاحتفال الجماهيرى لإعلان حلول شهر رمضان من باب الذهب أحد ابواب القصر الفاطمى متحليا بملابسه الفخمة وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة وفى ايديهم الرماح والاسلحة وأمامهم الجند والمصريون بكل طوائفهم من التجار وصانعى المعادن والصاغة وغيرهم الذين كانوا يتبارون فى إقامة أنواع الزينة على محلاتهم فتبدو الشوارع والطرق فى كل مكان فى أبهى صورة ولإضاءة الشوارع كان يستخدم الشموع حيث كان من عادات المدينة الإسلامية ان تنام بعد صلاة العشاء.. وفى ليل رمضان كان يضطر الناس إلى الاستيقاظ للسحور فكانت القناديل تضاء بالزيت قبل أن تتحول إلى فوانيس.
ويتحدث المقريزى ويسجل ان سوق الشماعين بـالنحاسين وكان يعد من أهم الاسواق خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين كان مخصصاً لبيع الشموع وكانت مختلفة الأحجام، ويسجل المؤرخون ان الفوانيس ظهرت منذ عصر المعز لدين الله الفاطمى وذلك عندما وصل إلى مصر واستقبله المصريون ليلا يحملون الفوانيس.
الفوانيس
وكان أول ظهور للفانوس فى مصر خلال العام 1500 ق. م وكانت توضع الفوانيس فى القصور والمعابد وعادة ما كانت صناعتها تتم من الذهب أو الفضة المطعمة بالذهب مع الزجاج الملون.
ويرجع بعض المؤرخين كلمة فانوس إلى الفارسية بمعنى المشعل، وظل الفانوس يتطور فى مصر من عصر إلى آخر وللفانوس تاريخ طويل حيث مرت صناعته بتطورات عدة، ومن المسجل تاريخيا أن الفوانيس عرفت فى مصر منذ اليوم الأول لدخول الفاطميين فى الخامس من رمضان عام 362 هجرية وكان الفاطميون يسرفون فى تقديم الهدايا للأطفال احتفالا بقدوم المعز لدين الله الفاطمى فقام الاطفال بحمل الفوانيس المضاءة لاستقباله والحصول على الهدايا وتكررت تلك العادة بشهر رمضان وصارت أحد أبرز ملامح الاحتفال برمضان وجزءاً من زينة ومظاهر الاحتفال بقدوم الشهر الكريم.
ويطلق على الفانوس فى بعض اللغات اسم «فيناس» حيث جاء فى القاموس المحيط للفيروزابادى ان أصل معنى كلمة فانوس هو النمام ذلك لانه يظهر ويبدى صاحبه وسط الظلام.
الهلال
وكان الخليفة الفاطمى يخرج الى شوارع القاهرة ومعه المشايخ احتفالا باستطلاع رؤية هلال رمضان ويبدأ الموكب من بين القصرين ويسير فى منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح ثم يدخل من باب النصر عائدا الى باب الذهب واثناء العودة توزع الصدقات على الفقراء وكانت تصاحب الموكب الموسيقى وتصدح بأنغام قوية كما تنتشر الأعلام فى كل مكان تحمل عبارات النصر، وكان الناس يحتشدون على جوانب الطرق لمشاهدة موكب الخليفة وإلقاء التحية وتهنئته بشهر رمضان ويخرجون الاطفال حاملين الفوانيس ليضيئوا له الطريق وهم يغنون فى فرحة وبهجة بقدوم الشهر الكريم ويسجل المؤرخ إبراهيم عنانى (عضو اتحاد المؤرخين العرب) أنه فى عام 155 هجرية خرج أول قاض لرؤية هلال رمضان وهو القاضى ابو عبد الرحمن بن لهيعة الذى ولى القضاء فى مصر وخرج لرؤية الهلال وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته حيث كانت تعد لهم دكة على سفح جبل المقطم عرفت بـ (دكة القضاة) يخرج اليها لنظر الأهلة وفى العصر الفاطمى بنى القائد بدر الجمالى مسجدا له سطح على سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصدا لرؤية هلال رمضان.
فى أيام المماليك كان قاضى القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الاربعة كشهود ومعهم الفوانيس ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف بالقاهرة ويشترك معهم المحتسب وكبار التجار وكانوا يشاهدون الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون لوقوعها أمام المحكمة الصالحية فإذا تحققوا من رؤيته اضيأت الفوانيس على الدكاكين وفى المأذن وتضاء المساجد ثم يخرج قاضى القضاة فى موكب تحفه جموع الشعب حاملة الفوانيس حتى يصل الى داره.
واشتهرت المناطق الشعبية بصناعة الفوانيس مثل تحت الربع ـ القلعة ـ شارع السد البرانى ـ بركة الفيل واطلق على الفوانيس اسماء مثل الفانوس الملكى ـ تاج الملك ـ البرج والفانوس النحاسى هو امتداد للفوانيس الفاطمية.
ويصف الرحالة ناصر خسرو الذى زار مصر فى القرن الخامس الهجرى الثريا التى اهداها الخليفة الحاكم بأمر الله الى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط بأنها كانت تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة وكان يوقد به فى ليالى رمضان اكثر من 700 قنديل وكان يفرش بعشر طبقات من الحصر الملون بعضها فوق بعض وما ان ينتهى رمضان حتى تعاد تلك الثريا والقناديل إلى المخازن لحفظها داخل المسجد كما ان الدولة فى ذلك الوقت كانت تخصص مبلغا من المال لشراء البخور الهندى والمسك والكافور الذى يصرف لتلك المساجد فى شهر رمضان.
ويعتبر الخليفة الفاطمى أول من عمل مائدة الرحمن فى شهر رمضان يفطر عليها أهل الجامع العتيق (عمرو بن العاص) وفى الجامع الأزهر مثلها وتمتد آلاف الموائد المليئة بأطيب الطعام للصائمين وبنى الخليفة الفاطمى العزيز بالله دارا سميت (دار الفطرة) ويبدأ العمل بها من أول رجب الى آخر رمضان
من أشهر الاغانى كلمات تغنى حتى الان وهى وحوى يا وحوى فهى تحريف لكمات هيروغليفية كان الغرض منها الترحيب بالإله (خونسو) إله القمر فقد كام المصريون القدماء يرصدون تحركات الاجرام السماوية ومنها القمر وويستقبلونه بهذه الكلمات (واح وى واح أى اياح ) والتى تعنى اكليلا وترحابا بمجيء القمر.
ومن الاغانى الشعبية للاطفال وكانوا يغنونها وهم يضربون على الآلة النحاسية قائلين : ياداير فى بلاد الناس سقت عليك أبو العباس تبات عندنا الليلة.
وكتب الجبرتى انه فى القرن الثامن عشر الميلادى استمع احد الفقهاء المتصوفين الى الاطفال وهم ينشدون (أحدتك حدوتة بالزيت ملتوتة حلفت ما اكلها حتى ييجى التاجر والتاجر فوق السطوح والسطوح عاوز سلم والسلم عند النجار والنجار عاوز مسمار والمسمار عند الحداد والحداد عاوز بيضة والبيضة فى بطن الفرخة والفرخة عاوزة قمحة والقمحة فى الاجران والاجران عاوزة الدراس .. و
وهذه الاغنية التى ينشدها الاطفال فى رمضان تدعو أساسا لاهمية العمل الذى سيكون الناتج منه الخير ويقصد بأحدتك حدوتة بالزيت ملتوتة أى الحكايات الممزوجة بالمرح والحب وتعبيرا عن الحب الالهى
المسحراتى
أنا صنعتى مسحراتى وبالبلد جوال
جيت ولبيت زى العشق ليالى طوال
وكل سير وحتة من بلدى حتة من كبدى حتة من موال
كلمات نسجت وجدان المصرى عبر ازمنة مختلفة ومازال المصريون يرددونها فى شهر رمضان.
والمسحراتى ظاهرة رمضانية من أجمل موروثاتنا الشعبية الضاربة فى أعماق التاريخ وبقدوم رمضان تظهر صورة المسحراتى فى كل ارجاء مصر ومعه طبلته وينادى (يا أهل الله قوموا تسحروا) ويدق على أبواب البيوت بعصا والطبلة تسمى (بازة) قديما... وأخذت شخصية المسحراتى بالتطور.. وادخلت الآلات الموسيقية فى اساليب التسحير لحض الناس على الصوم كما اصبحت الاناشيد والمدائح والادعية اسلوبا جديدا للمسحراتى.
الكنافة والقطائف
تشير الروايات إلى ان أول من قدم له الكنافة هو معاوية بن ابى سفيان زمن ولايته للشام كطعام للسحور بينما يؤكد البعض ان الكنافة صنعت خصيصا لسليمان بن عبدالملك الاموى، والبعض يرجعها الى الفاطميين، وذاع صيتها مما جعل المؤرخ الجليل والعالم الكبير جلال الدين السيوطى الذى عاش فى مصر فى العصر المملوكى يجمع كل ما قيل فى الكنافة والقطائف نثرا وشعرا فى كتاب سماه (منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف)
يقول الشاعر ابو الحسين الجزار المصرى:
سقى الله اكناف الكنافة بالقطر
وجاد عليها سكرا دائم الدر
وتبا لأوقات المخلل انها
تمر بلا نفع وتحسب من عمرى
والمراد بالقطر هنا العسل الذى تسقى به الكنافة واصلها فى اللغة الشركسية (تشنافة) وهى من جزءين تشنا وتعنى البلبل وفه تعنى لون والمراد لون البلبل والقطائف سميت بذلك تشبيها بمخمل القطيفة التى تفرش.
ويشيد شهاب الدين بالكنافة قائلا :
اليك اشتياقى يا نافة زائد ومالى غناء عنك كلا ولا صبر
فلا زلت اكلى كل يوم وليلة ولا زلت منهلا بجرعاتك القطر
ويقول الشريف الرضا يهنئ الخليفة الطائع العباسى :
تهن قدوم صومك يا امامى يصوم مدى الزمان عن الانام
اذا ما المرء صام عن الدنايا فكل شهوره شهر الصيام
ويسجل ابوهلال العسكرى اعجابه بالقطائف قائلا :
كثيفة الحشو ولكنها رقيقة الجلد هوائية
رشت بماء الورد اعكافها منشورة الطى ومطوية
جاءت من السكر فضية وهى لدى الاذهان تبرية
رمضان وشاعر الربابة
ومن اجمل المشاهد الرمضانية فى التراث المصرى ومازال له مكانته فى نفوس المصريين عازف الربابة الذى تربى عليه وجدان المصريين فى القرى والنجوع وفى احياء القاهرة التى اشتهرت بمقاهيها حيث يتفق صاحب المقهى مع عازف الربابة ليحىى ليالى رمضان ويصطف الجمهور فى ترتيب وانتباه ويأخذ عازف الربابة راحته النفسية حين يجلس على الاريكة عازفا حكاية عنتر وعبلة وما ينشده عن فرحة الحبيبين... ويعتبر عازف الربابة النبع الصافى لتثقيف الناس بالحكايات التاريخية والاساطير مثل ابوزيد الهلالى والزير سالم وسيف بن ذى يزن والظاهر بيبرس وحمزة البهلوان.
وارتبط الفن الشعبى فى مصر باسم زكريا الحجاوى الذى تنقل بين القرى والنجوع.
وزكريا الحجاوى عاشق المداحين والبسطاء والفلاحين احب مصر واكتشف الريس متقال وقدم محمد طه وشوقى القناوى وجمالات شيحة وابودراع وخضرة محمد خضر إلى جمهور الغناء فى إحياء ليالى رمضان فى ايوب المصرى وملاعيب شيحة.