فى شهر أبريل عام 2018 زرت مكتبة الإسكندرية وعدد من أئمة وزارة الأوقاف المتدربين فى الدورة التدريبية رقم (75) بمركز التدريب التابع للوزارة، وكنت وقتها مكلفاً بتدريبهم بصفتى مدير عام التدريب بالوزارة، كانت هذه الزيارة ضمن برنامج تدريبى جديد كنت قد أعددته وأشرفت على تنفيذه، ويهدف إلى دمج أئمة وزارة الأوقاف فى الواقع، والتعرف عن قرب بمؤسسات الدولة الثقافية والفكرية، وكذلك التعرف على البنية الثقافية للمجتمع المصرى وبالتالى زيادة وعى الإمام الذى يؤدى خطابه الدينى من فوق منبره أو عبر صفحات التواصل الاجتماعى.
وخلال ثلاثة أيام بضيافة كريمة من الدكتور مصطفى الفقى، رئيس مكتبة الإسكندرية، وفريق عمله، تعرفنا على مشروع ذاكرة مصر الذى يوثق التاريخ المصرى من عصر محمد على وحتى تاريخه، كما استمتع الجميع بحوارات هادفة فى مجال علم النفس الاجتماعى وطبيعة الشخصية المصرية.. إلخ.
وكانت لى محاضرة بعنوان "الخطاب الدينى والعلوم المستقبلية"، تناقشت مع زملائى فيها حول مفهوم العلوم المستقبلية والخطاب الدينى، وكيف كان النبى صلى الله عليه وسلم يستشرف المستقبل ليضع الحلول للمشكلات المتوقعة؟ وهذا جانب مهجور فى السنة النبوية المشرفة.. فقوله صلى الله عليه وسلم: "ستفتحون مصر وهى أرض يسمى فيها القيراط فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمةً ورحما" رواه مسلم.
ألا يُعد ذلك من باب استشراف النبى صلى الله عليه وسلم للمستقبل؟
ولماذا تخلف الخطاب الدينى عن مسايرة التطور الحضارى؟
كما تناقشنا حول ضرورة الاهتمام بالعلوم المستقبلية لإيجاد مداخل جديدة تتناسب مع واقع الشباب... إلخ.
وفى الأيام الماضية، أعلن مؤسس وصاحب شركة فيسبوك "مارك زوكروبيرج" عن تحويل اسم شركته "فيسبوك" إلى اسم "ميتا" والمشتقة من كلمة "ميتافيرس". وهذا المصطلح ميتافيرس (Metaverse)هى كلمة تتكون من شقين الأول meta بمعنى (ما وراء) والثانىVerse مُصَاغ من "الكون" أي (الكون الماورائى) وتمت صياغة المصطلح لأول مرة فى رواية الخيال العلمى Snow Crash التى كتبها ستيفنسون عام 1992، حيث يتفاعل البشر كـ"أفاتار" مع بعضهم البعض ومع برامجيات فى فضاء افتراضى ثلاثى الأبعاد ومشابه للعالم الحقيقي.. استخدم ستيفنسون هذا المصطلح لوصف جيل جديد للإنترنت يعتمد على الواقع الافتراضى ويقترب من الواقع الحقيقى.
وبات الخيال واقعاً، وأصبح العالم كله الآن يتحدث عن الميتافيرس ومدى الجاهزية لهذا العالم الذى ستدخله البشرية حتماً.
فبدلاً من أن تكون التفاعلات البشرية واقعية ومحسوسة عبر التلاقى المادى أو تكون غير مادية وغير محسوسة عبر التلاقى الرقمى من خلال شاشات الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر، سوف يكون هناك طريق ثالث يسد الفجوة بين هذين العالمين (الواقعى والرقمي)، ليظهر عالم ثالث افتراضى يأخذ من الواقع شيئاً، ومن الإنترنت والتقنيات الذكية أشياءً، بحيث تسمح هذه التقنية لمستخدميها بالتلاقى والعمل والتعليم والترفيه بداخله، مع توفير تجربة تسمح لهم، ليس فقط بالمشاهدة عن بُعد عبر الأجهزة الذكية كما يحدث حالياً، ولكن بالدخول إلى هذا العالم فى شكل ثلاثى الأبعاد عبر تقنيات الواقع الافتراضي.
وتتعدى تجربة عالم "الميتافيرس" فى التعليم لتكون أكثر ثراءً، فتوفر مثلاً للطلاب المعنيين بدراسة الفضاء أو المحيطات أو الجيولوجيا أوالتاريخ، فرصة لمحاكاة هذه العوالم فى صورة ثلاثية الأبعاد، وبالتالى يمكنهم الذهاب إلى القمر أو أحد الكواكب الشمسية أو حتى الشمس نفسها، وأيضاً يمكنهم الذهاب إلى أعماق المحيطات أو باطن الأرض، أو حتى العودة إلى أحد الأزمنة التاريخية ومحاكاة طرق العيش فيها. ومع دخول نظم الذكاء الاصطناعى فى برمجة شخصيات هذه العوامل، يمكن للمُستخدم أن يعيش تجربة شبه حقيقية بالفعل.
والسؤال الذى يطرح نفسه؟
هل نحن جاهزون على النفسى والعلمى لاستقبال هذا العالم الواعر؟
وهل عندنا استعداد لمواجهة مخاطره الدينية والثقافية والفكرية؟
فبناء على ما سبق ذكره يمكن أن يدخل الشاب إلى غرفة فى الميتافيرس ليجد داعش بكامل فكرها ونشاطها!
وسيجد جماعات الفكر الضال بكل قواهم!
كما سيجد الإباحية والإلحاد وكل الموبقات!
فهل سنواجه هذه التحديات بالمنابر وخطبة الجمعة؟ والخطاب الشعائرى المقولب والمتقعر؟ أم سنسبق الجميع ونحجز أمكنة هناك لإنارة الشباب ومحاولة تحصينهم من الشرور القادم؟
وماذا عن الأسئلة الفقهية التى ستظهر بعد استخدام الميتافيرس؟
وأتوقع بعضها على النحو التالى:
-لقد قابلت زوجتى فى غرفة على الميتافيرس وقلت لها أنت طالق.. فهل يقع الطلاق؟
قابلت فتاة على الميتافيرس وتزوجتها عرفياً بشهود.. فهل ينعقد الزواج؟
فضلاً عن مشاكل قانونية ستحتاج إلى تعديل قوانين وإنشاء قوانين أخرى للفصل فى المشاكل المحتملة والجرائم الخاصة بهذه التقنية كالسب والقذف والتنمر. والاغتصاب فى هذا الواقع الافتراضى... إلخ.
إنه عالم مخيف لا يمكن منعه، ولكن يمكن التحصين بالمناعة لمواجهة أخطاره.
وإذا كنا قد تأخرنا فى تجديد الخطاب الدينى لمسايرة الواقع الافتراضى الحالى.. فكيف الاستعداد لمواجهة الواقع الماورائى هذا بتقنية ثلاثى الأبعاد؟
وعلى هذا أقترح عاجلاً وليس آجلاً:
تشكيل لجان متخصصة للدراسة ووضع استراتيجية كاملة واضحة المعالم لمواجهة المخاطر المحتملة ووضع الحلول القابلة للتطبيق.
أما على المستوى الدينى والفكرى: فلابد من التعجيل بعمل دورات تدريبية لشباب الأئمة والوعاظ على منهج تدريبى يتم وضعه مسبقاً بعيداً عن الأطر الوظيفية الجامدة التى تحول كل فكرة جديدة إلى دعاية كاذبة بثقافة دهن الرصيف دون نتائج ملموسة.
ولقد صدق الله تعالى حينما قال:
" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" الكهف: 30
وللحديث بقية …