الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

«كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»

  • 10-11-2021 | 12:56
طباعة

قليلة حقًا الدراسات التي عالجت التراث الصوفي الذي تركه أبو عبد الله محمد بن عبد الله النفّرِي، كانت حياة النفّرِي غامضة، فلا أحد يعرف على وجه الدقة متى وُلِدَ، ظهر اسمه في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة، وما نعرفه عن حياته قليل، وهذا القليل مأخوذ كله مما ورد عند شارح مواقفه «عفيف الدين التلمساني»، وهو أحد متفلسفة الصوفية في الإسلام، ولا تقل حياة «التلمساني» - الذي توفى سنة 690 هـ - غموضًا عن حياة النفّرِي نفسه. [انظر: د. جمال المرزوقي، دراسته وتقديمه للنصوص الكاملة للنفّرِي، مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية، الطبعة الأولى 2019، ص 39، وأيضًا هامش الصفحة نفسها].

إن النفّرِي لم يؤلف كتابًا، ولكنه اعتاد أن يكتب كشوفه الروحية على قصاصات من الورق، انتقلت من بعده إلى ابن من أبناء ابنته، وهذا بدوره نقلها إلينا بهذا الترتيب الذي نُشِرَت عليه، ولم يكن النفّرِي نفسه هو الذي رتبها، إن الذي رتب هذه المواقف – إذن – وألف بينها هو ابن ابنته، ولم يكن الشيخ هو الذي رتبها، لأنه لو كان رتبها بنفسه لكانت على أحسن حال مما هى عليه، بحيث لا يكون شئ إلا مع ما يناسبه. (المرجع السابق ص 40)

وقد ظهرت بذور التصوف الأولى في نزعات الزهد القوية التي سادت العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري. ويُرجِع «رينولد نيكولسون» في كتابه «في التصوف الإسلامي وتاريخه» العوامل الرئيسية في ظهور نزعة الزهد إلى عاملين:

الأول: المبالغة في الشعور بالخطيئة.

والثاني: الرعب الذي استولى على قلوب المسلمين من عقاب الله وعذاب الآخرة.

سارت هذه الحركة وفقًا لقواعد الدين أول الأمر، ولكن دوام الحال من المحال، إذ سرعان ما تحول الزهد إلى تصوف، فإن الحسن البصري، وهو من أشهر ممثلي حركة الزهد، ويُعَد في نظر الصوفية واحد منهم، كان ينزع إلى حياة روحية خالصة في عبادته، غير قانع بمجرد الصورة الشكلية والتقليدية في أداء العبادات، ويروي عنه القشيري في رسالته أنه قال: «مثقال ذرة من الورع الصحيح خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة» أما في القرن الثالث فقد ظهر التصوف في صورة جديدة تختلف تمام الاختلاف عن سابقتها، إذ غلب الشوق إلى الله بعض المتصوفة مثل «معروف الكرخي» (المتوفي سنة 200 هـ).

وكذلك «ذو النون المصري» - (المتوفي سنة 245 هـ) الذي هو أحق رجال الصوفية -على الإطلاق بأن يُطلق عليه اسم واضع أسس التصوف. ولما سئل ذو النون: «كيف عرفت ربك؟».

أجاب: «عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي»

والحق في نظر ذو النون لا يمكن وصفه إلا بصفات السلب، ولذلك يقول: «كل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك». ولذي النون أقوال كثيرة في أن التصوف علم باطن قاصر على الخواص، ولهذا يفرق بين توبة العوام وتوبة الخواص في قوله: «توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواص تكون من الغفلة». (نيكولسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة أبو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص 7).

وإذا عدنا إلى عنوان هذا المقال؛ سنجد إن النفّرِي لم يكن يعلم أنه، وبعد قرون من وفاته، ستكون إحدى مكاشفاته في كتابه المعروف «المواقف والمخاطبات» وهى العبارة التي تقول «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة» سوف تمثل مدخلاً من مداخل الحداثة الشعرية. هذه المقولة العبقرية مازالت تُرَدَد منذ قرون، وهى تقف شاهدة على شخصية استثنائية، ولا عجب في ذلك فقائلها هو النفّرِي، وهو من أبرز علماء التصوف في القرن الرابع الهجري، ويجمع بين التصوف والفلسفة والأدب، وقد لقيت تلك العبارة صيتًا واسعًا، فتناقلتها الأجيال، وذلك لعمقها ونجاحها في تصوير حال الإنسان عندما يعجز عن التعبير عما في الوجود من أسرار، وقد تناولها كثير من الباحثين والنقَّاد بالشرح والتأويل وكأنها نصًا فلسفيًا كاملاً.

الرؤية دائمًا رحبة متسعة لا تحدها حدود، بينما الكلمات قاصرة عن الإحاطة بالمعاني والأسرار، وبالتالي فإن الكلمات غطاء للحقيقة وستر لها، وعلى ذات النهج الذي صيغت به عبارة «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، اتسمت نصوص النفّرِي الفلسفية والصوفية بالطابع الغامض والمنغلق، وكأنما يأبى الرجل أن تنفتح مغاليق كلماته إلا لمن أوتي المعرفة والعلم، وبالفعل فإن أول من عرَّف الناس بالنفّرِي وفلسفته وتصوفه عبر إشارات عميقة، كان عبقريًا آخر من عباقرة الفلسفة والتصوف وهو محيي الدين بن عربي، خاصة في مؤلفاته «الفتوحات المكية»، و«رسالة الأعيان».

يتميز النفّرِي عن كل ما سبقه بتشريحه لأعلى درجات الفناء، وتسميته لها بـ«الوقفة»، وتسميته الفاني بـ«الواقف»، حتى إذا وصل السالك إلى غاية الغايات من وقفته أحسَّ بانعدام كل تمايز بينه وبين الله. و«الوقفة» عند النفّرِي تعني أن ينفصل الصوفي تمامًا عن السوى، أي ينفصل تمامًا عن ما سوى الله. (جمال المرزوقي، مرجع سابق، ص 72).

يتضح لنا مما سبق مقدار الجهد الذي بذله الزميل والصديق العزيز الدكتور جمال المرزوقي في إثراء المكتبة العربية بدراسة التراث الصوفي للنفّرِي وفحصه وتحقيقه. ولقد أشاد كثيرٌ من المفكرين والأدباء بأعمال الدكتور جمال المرزوقي وجهوده في هذا المضمار، والتي لا ينكرها سوى مكابر أو جاهل، وإذا حاولنا سرد أسماء هؤلاء فلن ننتهي، لذلك سوف نكتفي هنا بما ذكره المفكر المصري الكبير المرحوم الأستاذ الدكتورعاطف العراقي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، والذي ذكر في تصديره الطبعة الأولى لكتاب «عفيف الدين التلمساني – شرح مواقف النفّرِي – دراسة وتحقيق وتعليق الدكتور جمال المرزوقي»، ما يأتي نصًا:

«مازالت مكتبتنا العربية في أمس الحاجة إلى المزيد من الدراسات في مجال التصوف، وخاصةً تلك الشخصيات التي لم تنل حظها من الدراسة والتحليل. من هنا كانت سعادتنا البالغة حين أقدم الدكتور جمال المرزوقي على دراسة آراء شخصية لم تنل حظها من الدراسة رغم أهميتها الكبيرة، وهى شخصية النفّرِي، تلك الشخصية التي كانت مجالاً لدراسته لدرجة الدكتوراة بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة. وقد سررت كثيرًا حين تفضل الدكتور أبو الوفا التفتازاني [الذي كان مشرفًا على رسالة جمال المرزوقي] بدعوتي للاشتراك في مناقشة أطروحته للدكتوراة، ونالت رسالته كل تقدير وإعجاب؛ لأهمية موضوعها من جهة بالإضافة إلى أن صاحبها كان تلميذي بالأمس، وصار صديق وزميل اليوم، الدكتور جمال المرزوقي، قضى في دراسة النفّرِي سنوات طوال، قرأ خلالها مئات الكتب، والتي تُعَد على درجة كبيرة من الأهمية، وكان بذلك باحثًا مجتهدًا». ويستطرد الدكتور عاطف العراقي رحمه الله قائلاً: «كان جمال المرزوقي باحثًا حقيقيًا، ولم يكن كأشباه الباحثين، والذين تحسبهم من الباحثين، في حين أنهم من الأشباه [كما يقول عاطف العراقي] ومن الأقزام والجهلة. وقد أراد الدكتور المرزوقي أن يُكمل المسيرة – مسيرة دراسته لآراء النفّرِي، وكل ما يحيط به من قريب أو بعيد – فنجده يقدم اليوم (شرح مواقف النفَّرِي لعفيف الدين التلمساني). وأشهد أن كاتبنا جمال المرزوقي بذل في دراسته جهدًا كبيرًا. وإذا صح تقديري فإن كل المهتمين بالتصوف من قريب أو من بعيد سيتقبلون دراسته بكل تقدير. لقد اهتم الدكتور جمال بدراسة آراء التلمساني المخطوطة ...». (د. عاطف العراقي، تصديره لكتاب «عفيف الدين التلمساني – شرح مواقف النفّرِي – دراسة وتحقيق وتعليق الدكتور جمال المرزوقي»، مركز المحروسة، الطبعة الأولى مايو، 1997، ص ص 13 – 14).

«إن ما فعله الدكتور جمال المرزوقي، إن دلنا على شئ، فإنما يدلنا على أن باحثنا الممتاز جمال المرزوقي قد أدرك بثاقب نظره الفرق بين مجرد طبع التراث، وتحقيق التراث، فطبع التراث هو مهمة التجار في دنيا المال، أما التحقيق فلا يستطيع الإقدام عليه إلا كل باحث جاد مخلص». (المرجع السابق، ص 15)

أخبار الساعة

الاكثر قراءة