الخميس 23 يناير 2025

مقالات

مجتمع الذئاب

  • 10-11-2021 | 23:25
طباعة

هناك أمر فى القانون الجنائى يقول إن وقوع الجريمة فى حياة الفرد احتمالية، أما وقوع الجريمة فى المجتمع فهو حتمى، بمعنى آخر أن الفرد قد يعيش عمره كله وهو لم يرتكب أو ترتكب ضده جريمة من أى نوع، ولكن المجتمع الذى يعيش فيه هذا الفرد سترتكب فيه جرائم من كل الأنواع ويصبح هناك داخل هذا المجتمع مجرمين وضحايا.

بالتأكيد نسبة ارتكاب الجريمة ومعدلاتها وأنواعها تختلف من مجتمع إلى آخر ومن بلد إلى بلد أخرى، وهذا الاختلاف يأتى نتيجة لعوامل كثيرة منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويجب أن يدرك أى مجتمع أن الجريمة ستقع بشكل أكيد لأننا بشر ولايوجد مجتمع من الملائكة.

النقطة الأهم التى يجب أن يدركها أى مجتمع هو تأثير الجريمة عليه وكيف يتعامل معها؟ وهل أصبحت الجريمة شيئًا اعتياديًا فى حياة المجتمع وأفقدته شعوره بالأمان؟ أو تحول نوع معين من الجرائم إلى ظاهرة تفشت فى هذا المجتمع ولا يستطيع السيطرة عليها؟ أم أن سلطات تنفيذ القانون تراخت فى التعامل معها أومن ناحية أخرى لا تدرك كيفية التعامل معها ؟ هذه هى الأسئلة الرئيسية التى يجب أن يواجه بها المجتمع نفسه عند التعامل مع فعل الجريمة الذى سيقع لا محالة داخل أى مجتمع بشرى.

فى الفترة الأخيرة وقعت عدد من الجرائم فى مجتمعنا، تسببت فى حالة من الدهشة والصدمة لمن تابع تفاصيلها، وعندما تنظر إلى طبيعة هذه الجرائم تجد أن الأساس فيها فرديتها ولا تشكل ظاهرة، وهذا ليس تقليلا من خطورتها، لكن الحديث عن ظاهرة إجرامية فى مجتمع يجب هنا أن نعود إلى الإحصائيات وعدد سكان هذه الدولة وتناسب عدد الجرائم أو نوع معين منها مع تعداد سكانها.

ففى بلد مثل مصر يفوق تعداد سكانه الـ 100 مليون وتحدث فيه مثلا جرائم قتل وعندما تقارن بين عدد هذه الجرائم وحجم السكان سنجد بوضوح أن معدلات جرائم القتل فى مستوى المجتمع الطبيعى الذى يجب أن يشهد وقوع جرائم قتل لكن عندما تشاهد آلاف الأسر القادمة من أمريكا اللاتينية وتقف على الحدود الأمريكية تقاتل من أجل الدخول إلى الولايات المتحدة، فإن هذا الإصرار لايعود إلى البحث عن فرص عمل أو حياة أفضل لكن أغلب هذه الأسر أتت من ما يسمى بالمثلث الشمالى الذى يضم دول السلفادور وجواتيملا وهندرواس هربًا من سيطرة عصابات الجريمة المنظمة التى تتاجر فى المخدرات وتقتل الآلاف فى صباح كل يوم وتغتصب النساء والأطفال كفعل عادى ويصبح الخروج إلى الشارع فى الدول الثلاث مغامرة غير مأمونة العواقب، لأن القتل أو الاغتصاب أو الاختطاف ينتظر الإنسان فى شوارع هذه الدول كحدث يومى دون وجود أى سلطة تردع هذه العصابات أو قوة قانون تحمى المواطن.

 اضطرت آلاف الأسر للهرب من هذا الجحيم رغم مخاطر طريق الهجرة غير الشرعية وشراسة السلطات الأمريكية فى التعامل مع المهاجرين لكن نار السلطات الأمريكية أهون ألف مرة من جنة الوطن الذى تسيطر عليه العصابات والقتلة.

فى هذا المثلث الشمالى الذى يضم الدول الثلاث نحن أمام ظاهرة إجرامية وليس جرائم قتل فى مجتمع ووصل حد الظاهرة إلى الدرجة التى دفعت السكان إلى الهرب من بلادهم للنجاة بحياتهم رغم المخاطر، بمعنى آخر نحن أمام مجتمعات انهارت أمام سطوة الجريمة.

أما إذا أردنا تتبع جريمة تحولت إلى ظاهرة تسببت فى صدمة حقيقية وتدخل سياسى حتى لاينفجر المجتمع من الفزع وهنا الفزع ليس ناتجًا عن مشاهدة كليب على السوشيال ميديا لتفاصيل جريمة فردية بل الفزع وصل إلى كل بيت مما دفع الآلاف ليخرجون فى مظاهرات طلبًا للأمن المفقود وهذا المجتمع لاينتمى إلى العالم الثالث بل إلى العالم الأول إلى أوروبا وتحديدًا بريطانيا.

يمر المجتمع البريطانى الآن بحالة من الرعب الشديد لتفشى جريمة الاغتصاب وعندما نذكر هذا المصطلح الإجرامى فى بلد مثل مصر فكل ماسيتبادر إلى الذهن اعتداء رجل على امرأة، أما فى بريطانيا فظاهرة الاغتصاب الإجرامية لا تعرف حدودا، فإحدى هذه الجرائم المكتشفة مفزعة فالجانى هنا اغتصب 195 رجلا بعد أن استدرجهم إلى شقته من البارات وهم فى حالة من السكر ويمكن أن ينتهى الأمر إلى القتل، أما الجانى فى جريمة أخرى فبعد أن اغتصب النساء وقتلهن كفعل عادى فى بريطانيا اتجه إلى نوع آخر من جنون الجريمة، فالشرطة البريطانية وهى تحقق فى جريمتى اغتصاب وقتل امرأتين وجدت مشتبهًا فيه وبتحليل الحمض النووى ثبت أنه المغتصب والقاتل، لكن تحقيقات الشرطة كشفت عن جريمة جنونية يرتكبها هذا المغتصب القاتل فهو ترك اغتصاب الأحياء واغتصب أكثر من 136 من جثث الأموات داخل مشارح المستشفيات ولم يرحم حرمة أى جثة امرأة سواء من عمر 9 سنوات إلى 100 سنة وسجل هذا الفعل الجنونى على هاتفه الخاص

إذا عدنا إلى الاغتصاب "المعتاد" فى بريطانيا، فنحن أمام ظاهرة إجرامية جنونية وكارثية تقول عنها الإحصاءات أن حالات الاغتصاب خلال النصف الأول من هذا العام تعدت 60 ألف حالة، وبالتأكيد هذا ماتم الإبلاغ عنه من قبل الضحايا ولكن لايعلم أحد عدد الجرائم التى لم يتم الإبلاغ عنها وظلت غير معروفة بسبب خوف الضحية من الإبلاغ ولمعرفة حجم هذه الظاهرة يمكن مقارنتها بتعداد سكان بريطانيا الذى يبلغ 67 مليون مواطن.

هل توقفت ظاهرة الاغتصاب فى بريطانيا عند هذا الحد من العنف والجنون؟ الكارثة الكبرى أن المجتمع البريطانى اكتشف بسبب جريمة اغتصاب أخرى أن رجال الشرطة الذين من المفترض فيهم حمايته هم أول من يرتكبون جريمة الاغتصاب، فضابط الشرطة البريطانى واين كوزينز بعد أن أنهى نوبة حراسته للسفارة الأمريكية فى لندن تجول بسيارته فشاهد شابة تدعى سارة شاء حظها السيئ أن تخرج من منزلها فى هذه اللحظة لتذهب إلى السوبر ماركت لتشترى بعض احتياجاتها، لكن الضابط كوزينز استوقفها وأخرج هويته الشرطية واعتقلها بتهمة عدم اتباع الإجراءات الاحترازية الخاصة بفيروس كورونا ووضع القيود فى يدها واصطحبها إلى منطقة مهجورة ليغتصبها ثم يخنقها، ولم يكتف بذلك بل أحرق الجثة وألقى بقايا الجثة المحترقة فى أحد مصارف المياه، وعاد بعدها الضابط واين كوزينز إلى بيته ليجلس مع زوجته وطفليه ليشاهد التليفزيون كأنه لم يفعل شيئًا.

التحقيقات أثبتت أن كوزينز لم يعرف فى يوم ما سارة أو راقبها مثلا حتى يغتصبها بل هو كان يسير بسيارته فوجدها شابة جميلة فقرر اغتصابها وقتلها، هكذا ببساطة!

أمام هذه السلاسل من جرائم الاغتصاب التى لاتتوقف فى المجتمع البريطانى وخاصة جريمة الضابط كوزينز، خرجت مظاهرات حاشدة فى العديد من المدن البريطانية تطالب الحكومة بالتصدى لهذه الظاهرة الإجرامية، مما دفع بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا إلى توجيه كلمة للشعب البريطانى عبر مقابلة مع محطة البى بى سى قائلا "إن الحكومة ستبذل قصارى جهودها لوضع المزيد من المغتصبين وراء القضبان"، وعلل جونسون أسباب هذه الزيادة المفزعة فى جرائم الاغتصاب أن الملاحقات القضائية المتعلقة بالاغتصاب والعنف الجنسي تسير بشكل خاطئ، وطالب جونسون نساء بريطانيا بالثقة فى شرطة بلادهم لأن الضباط البريطانيين جديرين بالثقة فى أغلبهم.

رغم أنه دارت مناقشات فى مجلس العموم أو البرلمان البريطانى بين رئيس الوزراء والأعضاء لمواجهة هذه الظاهرة الإجرامية، إلا أن البرلمان هو الآخر كان داخل دائرة الظاهرة لأن أحد أعضائه والمنتمى لحزب المحافظين الحاكم متهم فى قضية اغتصاب ووصفت الاتهامات فى القضية  بأنها خطيرة.

أمام هذه الظاهرة الإجرامية التى حولت المجتمع البريطانى إلى مجتمع تنهشه الذئاب اقترحت شركة "بريتش تليكوم" قبل أيام إنزال تطبيق على هواتف النساء البريطانيات باسم "رافقنى إلى المنزل" يتيح للنساء إرسال وجهاتهن إلى التطبيق وتتبعهن ويقوم التطبيق بحساب المدة الزمنية للطريق فإذا لم ترسل السيدة رسالة تفيد بوصولها إلى وجهتها يتصل التطبيق بالشرطة مباشرة، كل هذه التداعيات والاقتراحات تؤكد أن المجتمع البريطانى فى أزمة شديدة بسبب نوعية حقيقية وشرسة من الجريمة ومن حقه أن يشعر بالفزع والخوف لأن سلطة الدولة لا تستطيع حمايته ومواجهة الظاهرة الإجرامية.

بالنظر إلى هذه النوعية من الجرائم سواء فى المثلث الشمالى الذى هاجر آلاف من سكانه تحت ضغط جرائم العصابات والقتل أو بريطانيا التى تحول مجتمعها إلى مجتمع من الذئاب، سنجد أن هذه الجرائم لم تثر الفزع فى هذه المجتمعات لأن فيديو نشر على وسائط السوشيال ميديا لجريمة فردية أو نتييجة لشائعة ملفقة استخدمت فيها نفس وسائط السوشيال، لكن نحن أمام ظاهرة إجرامية حقيقية تسللت إلى كل بيت فى هذه المجتمعات وتنزع الأمان من حياة مواطنى هذه الدول فى ظل عجز واضح من سلطة هذه الدول فى مواجهة تلك الظواهر الإجرامية.

 

الاكثر قراءة