فى العام السادس للهجرة بعث رسول الله صلي الله عليه وسلم 6 رسل فى يوم واحد إلى الحكام في العالم، يعرض عليهم سماحة الإسلام، ويطمئنهم أنه رسالة سلام مع الله ومع الإنسان، وأنه نبي يريد اتباع الهدي وليس محتلاً يريد الهيمنة وثروات الناس.
واسمحو لي عرض الرسالة التي بعث بها إلى المقوقس عظيم القبط في مصر والتي جاء فيها:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الآريسين»
ورد عليه المقوقس بقوله بعد ما دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية، فكتب إلى النبي (صلّى الله عليه وسلم): بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط: سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك.
لاحظوا معي رسالة السلام والود بين رسول الله وبين المقوقس.
والآريسيون نسبة إلى الراهب آريوس فى القرن الرابع الميلادي، وذكر رسول الله لآريوس في رسالته يحمل دلالة عظيمة حيث كان يعلم تاريخ مصر والمشتركات الدينية والإنسانية بين رسالة الإسلام ومصر بتاريخها.
وننتقل إلى مارية القبطية التي أهداها له المقوقس كجارية فأسلمت وأعتقها وتزوجها وأصبحت أماً للمؤمنين.
وهكذا تحولت مارية بنت شمعون القبطية من جارية إلى زوجة الرسول وإحدى أمهات المؤمنين وأنجبت له ثالث أبنائه الذكور إبراهيم، والذي توفي وهو طفل صغير.
لمارية شأن كبير عند رسول الله صلي الله عليه وسلم، ففى صحيح الإمام مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً"، أو ذمة وصهراً" وفي رواية: "استوصوا بأهل مصر خيراً، فإن لهم نسباً وصهراً" . والنسب من جهة هاجر أم إسماعيل عليه السلام، والصهر من جهة مارية القبطية رضي الله عنها.
ويروى الكثير من أهل السير مظاهر حب رسول الله صلي الله عليه وسلم لزوجته مارية أم المؤمنين. لدرجة أنه كان يحرص علي رضاها وإكرامها وحسن عشرتها.
وأنزل الله صدر سورة التحريم بسبب مارية القبطية، وقد أوردها العلماء والفقهاء والمفسرون في أحاديثهم وتصانيفهم"، وقد توفي الرسول وهو راضٍ عن مارية، وكانت مارية شديدة الحرص على اكتساب مرضاة زوجها وحبيبها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
بعد مرور عام على الزواج المبارك، حملت مارية، وفرح النبي صلى الله عليه وسلم لسماع هذا الخبر، فقد كان قد قارب الستين من عمرهِ وفقد أولاده جميعهما عدا فاطمة الزهراء وولدت مـارية في "شهر ذي الحجة من السنة الثامنة للهجرة النبوية" طفلاً جميلاً يشبه الرسول، وقد سماه إبراهيم، تيمناً بأبيه إبراهيم خليل الرحمن.
ومن ناحية أخرى، كان إبراهيم بن محمد رابط عظيم بين رسول الله صلي الله عليه وسلم وبين مصر التي أحبها وسجد علي أرضها ونسبه يصل إلى هاجر المصرية، وتزوج منها، ولبس ملابسها وأثنى على أهلها.
وكأنه يستنبئ أيضاً أن مصر ستعلم الدنيا كلها علوم الإسلام وتصدره بنقائه ومحجته البيضاء إلى كل ربوع الأرض حتي إلى الحجاز الذي نزل فيه الإسلام، وكانت تسمية رسول الله لابنه من مارية المصرية "إبراهيم" أيضاً جسراً معنوياً عظيماً مع أهل مصر، حيث كانوا أهل كتاب، والعرب لا يشتهرون بتسمية أبنائهم باسم إبراهيم، فسمى اغبنه هذا الاسم ترضيةً للقبط وتعبيراً عن حبه صلى الله عليه وسلم لمصر وقبطها.
عاش إبراهيم ابن محمد، سنة وبضعة أشهر يحظى برعاية النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه مرض قبل أن يكمل عامه الثاني، وذات يوم اشتد مرضه، فرفعه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقهقه (ينازع) ومات إبراهيم وهو بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فبكى عليه ودمعت عيناه، وكان معه عبدالرحمن بن عوف فقال له: أتبكي يا رسول الله؟ فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: إنها رحمة "إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإن لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر من الهجرة النبوية المباركة"، وحزنت مارية رضي الله عنها حزناً شديداً على موت ابنها إبراهيم.
ومن المؤسف أن كثيراً ممن كتبوا السير والتاريخ ، لم يكتبوا عن السيدة مارية القبطية أم المؤمنين بما يليق بمكانتها عند الرسول وفى الإسلام وعند الصحابة من بعد عصر النبوة.
فذهب كثيرهم يدعى أن النبى صلى الله عليه وسلم أنجب ابنه إبراهيم من مارية بعقد ملك اليمين ومات عنها وهى جارية.
والحقيقة التى لا مراء فيها أن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينكح امرأة قط بعقد ملك اليمين، ولم يسبي النساء كما يدعون.
وقد تحدثت فى مقال سابق بعنوان "سبي النساء" عن هذه الافتراءات والرد عليها بالوثائق .
وإليك بعض الأدلة المؤكدة على أن السيدة مارية كانت زوجة وليست جارية :
أولا: بقاء السيدة «مارية» جارية دون زواج يتعارض وصفة الرسول الأولى وهى تحريره للعبيد والجوارى، وقد حرر صلى الله عليه وسلم 63 نفساً - وهذا العدد نفس عدد سنوات عمره - ومنهم ثلاث من زوجاته قبل زواجه منهن (مارية وجويرية بنت الحارث وصفية بنت حيى)، كما حرر كل عبيده وإمائه ومنهم حاضنته أم أيمن التى ورثها عن أبيه، وزيد بن حارثة وابنه أسامة بل وولاهما قيادة جيشين لمواجهة خطر الرومان.
ثانياً: ورد فى صحيح الإمام البخارى عن عمرو بن الحارث (رضى الله عنه): أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «لم يترك عند وفاته درهمًا ولا دينًارا ولا عبدًا ولا جارية إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة» ،
وهذا ينفى بصورة قاطعة أن مارية القبطية كانت جاريته عليه الصلاة والسلام بل كانت زوجه وأماً للمؤمنين.
ثالثاً: لا تتوقف أدلة كون الرسول تزوج من «مارية» عند ذلك، فهناك عدد من الشواهد الأخرى التى يستحيل معها كون أم المؤمنين القبطية «أمة»، أبرز هذه الشواهد: أنه من المفروض لو كانت جارية، أن تكون فى خدمة أحد بيوت النبى، أو أن تخدم النبى شخصيًا، لكن النبى محمد لم يفعل لا هذا ولا ذاك، بل أنزلها أول الأمر فى ضيافة أحد أصحابه، ثم بعد ذلك ابتنى لها «دويرة» مستقلة فى «العلياء» التى يصفها ابن سعد فى طبقاته بأنها «مكان ذو نبت وماء»، فهى «علياء» بالفعل بالنسبة لجو الصحراء المحيط، وكان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يجرى عليها نفقتها كاملة أسوة بباقى نسائه، وسار على عهده باقى خلفائه، فعاشت مستقلة بنفسها كصاحباتها من زوجاته صلى الله عليه وسلم.
بل تميزت السيدة مارية، حسب بعض الروايات، بأنها كانت مترفة لا تخدم نفسها، بل ترك الرسول لها خادمها «مابورا»، فكانت لا تملأ الماء ولا تجلب الحطب، ومابورا خادم جاء معها من مصر مع شقيقتها سيرين بنت شمعون، وقد أسلم الثلاثة عندما عرض عليهم الصحابى الجليل حاطب بن أبى بلتعة الإسلام وهم فى طريقهم من مصر إلى المدينة المنورة.
رابعاً: سرت على «مارية» جميع أحكام أمهات المؤمنات الخاصة بهن، ومنها فرضية الحجاب وفق الآية الكريمة « وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب 53 الأحزاب».
ومعنى الحجاب يعنى يحرم على الرجال محادثة أمهات المؤمنين إلا من وراء ساتر تكريماً لهن.
إضافة إلى تحريم زواجها من بعد النبى صلى الله عليه وسلم.
خامساً: كما أنه بفضل السيدة «مارية» كانت مصر البلد الوحيد فى تاريخ الإسلام التى اهتم بها الصحابة بهذا القدر، وعاملوا المصريين بإكرام امتثالا لحديث أَبِى ذَرٍّ فى صحيح مسلم الذى نقل عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِى أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا أَوْ قَالَ ذِمَّةً وَصِهْرًا».
كما تم إعفاء قرية «حفن» التى ولدت بها أم المؤمنين من الخراج واهتم بها الصحابة والتابعون، ولما قدم عبادة بن الصامت إلى مصر أيام عمرو بن العاص، بحث عن هذه القرية وبنى مسجدا يعرف للآن باسم مسجد «سيدى عبادة»، وقد تجدد بعد موته، وسميت القرية باسم قرية الشيخ عبادة، والسؤال هنا كل هذا الاهتمام من الصحابة بقرية السيدة مارية أليس ذلك وصلاً للرسول فى زوجه وأم المؤمنين؟
فالحكم على «مارية» بأنها «عبدة أو جارية» لم يرد فى مصدرى التشريع «النصوص»، وهى القرآن والسنة، فلا توجد آية تقول بأنها جارية ولا حديث صحيح واضح يعطى دلالة على ذلك، ولكن من قال بكونها «أمة»، عدد من المدونين وعلماء السير وصلوا لذلك باجتهاداتهم متأثرين بالظروف والنزعات القبلية وإعلاء قيمة العرب من البدو على من دونهم من المصريين والفرس والشوام والترك وغيرها من الأمم التى أعزت الإسلام، فى الفترة التى نمت فيها تدوين العلوم الدينية، ثم سار على سيرهم من جاء بعدهم.
وبالتالى نحن بحاجة شديدة إلى تمحيص الآراء التى وردت فى كتب السير والتاريخ والمشوبة بأخطاء ليست من الحقيقة فى شيء حتى أصبح الإسلام عند بعض المسلمين، مجموعة من أقاويل العلماء السلف الثقات أكثر مما هو موجود القرآن والسنة الصحيحة، فدخلت الآراء المتشددة متن الدين دون أن يكون لها سند صريح من كلام الله وسنة رسوله.
وخلاصة القول، إن السيدة مارية بنت شمعون زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين وأم ابنه إبراهيم لم تكن جارية بل أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وهى المقصود من قوله استوصوا بقبط مصر فإن لى فيهم نسباً وصهراً.
ولن تستطع قوى الشر بزرع الفتن الدينية على أرض مصر المباركة.