عشاق المسرح ممن وهبوا جهدهم وحياتهم له كٌثُر، تلك حقيقة نعرفها جميعا، وحاولت في تلك المقالات تذكرهم والتذكير بهم لنا وللأجيال الجديدة، وما أسعدني استقبال وتعليق عشاق المسرح لكلماتي المتواضعة. وحين أتوقف عند أستاذتي نهاد صليحة، وهي أول مرة استطيع الكتابة عنها بعد أن تركتنا جسدًا، ذلك أنني أشعر بوجودها بيننا بل وغالبا أود الاتصال بها كما تعودت دائما.
مرَّ شريط طويل من ذكرياتي مع نهاد منذ عادت من إنجلترا حاملة شهادة الدكتوراه وبدأت منذ منتصف الثمانينيات التدريس لنا في الأكاديمية مسرح شكسبير باللغة الإنجليزية، وإلى يوم رحيلها في ليلة عيد الميلاد المجيد، كانت أجراس الكنائس تقرع في الكنيسة المجاورة للمستشفى، وكأن نهاد تأبى أن تتركنا حزانى.
تذكرتها منذ دخلت علينا مدرج الرائد محمد مندور في أول محاضرات الترجمة، وقد حملت حقيبة بسيطة وارتدت الجينز وقميص أبيض بسيط وجلست إلى المقعد وقد تخلت عن الحذاء وعقدت قدميها فوق المقعد واسترسلت في قراءة نص شكسبير بأداء يؤكد جمال اللغة والمسرح، من حينها أسرْتنا وداومنا على المحاضرة لمتعة الشرح وبساطة الأداء. وهكذا كان كل طلابها في المعهد العالي للنقد الفني وقسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة الذي درست وتخرجت فيه وزاملت رفيق عمرها أستاذنا الدكتور محمد عناني.. كما لم تكن نهاد أستاذا تقليديا جعلتنا نحن أيضا طلابا غير تقليديين نناديها باسمها مجردا من أي لقب، وكان هذا يسعدها جدا كما أكدت مرارا، ثم تحولنا أصدقاء، أبناء، إخوة لوحيدتها سارة، ولا أنسى يوم مناقشة سارة للماجستير جذبتنى من يدي لأحمل علبة الشيكولاته وأقدمها للحضور، بينما كلفت زميلات أخريات لتوزيع الشربات، في حين أوصت مايسة ذكي حاملة الزهور في مناقشتنا جميعا، بالتواجد بجوار سارة وهي تقول: كونوا جنب أختكم.. وما أجملها من أخت يا نهاد .
شريط طويل من الذكريات أمام عيني حين دخلت بهو مسرح نهاد المجاور لمعهد النقد الفني الذي عملت به أكثر من ثلاثين عاما، وقد طالعت هدايا ابنتها، أختي الدكتورة سارة، للأكاديمية، قلادة العلوم والفنون وجائزة الدولة التقديرية وجائزة التفوق وشهادات تقدير وشكر من مهرجانات عربية وعالمية وصور لها مع كل المسرحيين في ربوع مصر. وما أبكى شقيقتها سناء صليحة حينها وجود الآلة الكاتبة الخاصة بنهاد في مدخل المسرح، حيث تذكرت كيف قضت نهاد الليالي تكتب على أوراقها مقالاتها وترجمات كتبها في دأب وتصميم على منح علمها لنا ولكل القراء، فحين كنت أسافر لقُطر عربي كان يُطْلَب مني كتبها الجديدة دائما بالعنوان "أمسيات مسرحية المسرح بين الفن والفكر – عن التجريب سألوني – ما بعد الحداثة – مسرح شكسبير" وغيرها.
والحقيقة إن إطلاق اسم نهاد صليحة على المسرح المكشوف بالأكاديمية فكرة تلميذها البار الدكتور أشرف ذكي، حين كان رئيسًا لأكاديمية الفنون، ليكون بادرة رائعة وسابقة سوف تتكرر لكل أستاذ أعطى لهذا الصرح الفريد أكاديمية الفنون، شكرًا لوفائك يا ذكي اسما وعملا.
نهاد في مكانة هامة بين عشاق المسرح بما كتبت وترجمت وفكرت ووجهت أجيال عدة، نهاد جعلت كل من درست لهم وعرفت في مشوار عمرها، جزءا من حياتها تشركنا في يومياتها تصحبنا للمسرح تناقشنا في المسرحية بعد نهايتها، وهي أيضا أصبحت جزءا هاما من حياتنا نشركها في همومنا وأحلامنا نطلب مساعدتها في مشكلاتنا، ونطلب النصح ولم تكن تخذلنا. مرة سألتها هل أزعجك حين أحدثك؟ نهرتني وأكدت أن سعادتها بيننا جميعا وأكدت على أمر تعلمته منها، أن الأستاذ ليس داخل المحاضرة فقط .
ومن هنا صرنا جزءًا من عائلتها نعرف أشقاءها، الكاتبة سناء رئيس الصفحة الثقافية في الأهرام لسنوات، والقاصة الفريدة والمترجمة الرقيقة عزة التي كانت تغيب فترات لعملها خارج مصر وحين تحضر تصحبها معنا لمشاهدة المسرح ونظل نتحدث حول المسرحية، في حين كانت هى تصحب شقيقتها الكبرى برتي إلى حيث تعمل في المتاحف والمنتديات وحفلات الكونسير، ويظل الشقيق الوحيد أحمد صليحة المثقف الهادئ صديقا عزيزًا منذ عملنا معا في هيئة الكتاب وإلى اليوم، وهو كبير المترجمين في الأمم المتحدة، كلما حضر للقاهرة يتواصل معنا لنجدد طقوس نهاد نذهب للأوبرا، للهناجر، لقاعات الفنون التشكيلية، ونتحدث في كل شيء وهي بيننا حاضرة لم تغب.
لقد صنعت نهاد من النقد والكتابة والصحبة حالات من العشق والحب بعدد كل تلاميذها وأصدقائها وزملائها حتى أضحت هي معشوقة الجميع وصاحبة فضل بمحبتها وعطائها الصادق الأمين على أجيال من الفنانين والكتاب والباحثين. ولهذا لا أستغرب من حكايات أي منا عنها في هذا الإطار، فأنا أعرف اهتمامها بتفاصيل حياة كل منا، فأذكر حين قدمت لها الفصل الأول من رسالتي للدكتوراه بعد أشهر قليلة من وفاة أمي ثم انفصالي عن زوجي، اتصلت بي بعد ما قرأت، وظلت تصحح معي عدة أشهر متواصلة، وهي تدفعني للانتهاء من الرسالة، وكلما استشعرت تعب مني قالت لي: كملي حولي حزنك وإحباطك لإنجاز، هكذا الحياة.. من يتوقف تتركه وتسير.. لا تتوقفي . وعند تحديد موعد المناقشة اتصلت بي لتخبرني وتؤكد على بإصرار: لا أريدك أن ترتدي اللون الأسود، اعرف أن والدتك رحلت لكنني أريدك أن تفرحي وتفرحي أمك في هذا اليوم.
حمل الكتاب الذي وزع في الاحتفال وصدرته بكلمة رقيقة مثلها الدكتورة غادة جبارة، مقالات محبة من بعض تلاميذ وأحباء نهاد، سباعي السيد، عبير على، رنا عبد القوي، محمد سمير الخطيب، أسماء يحي الطاهر، جرجس شكري، ياسر علام.
والحقيقة إنني واثقة من استمرار أنوار هذا المسرح لوجود فنان دؤوب ومخلص من تلاميذ نهاد وهو محمود فؤاد صدقي لو استشار وخطط بوعي وطموح .
ياااه يا نهاد حولتينا جميعا لعشاق لك وللمسرح .