واحد وعشرون عاماً قضاها المشير محمد حسين طنطاوى وزيراً للدفاع, تولى هذا الموقع الرفيع سنة 1991, فى أعقاب معركة تحرير الكويت, وظل يشغله حتى عام 2012 ; وبشكل عام فإن سمة مميزة لعصر الرئيس الأسبق حسنى مبارك, هو طول المدة التى ظل خلالها عدد كبير من الوزراء فى مواقعهم, ومن هنا لم تكن سنوات المشير طنطاوى هى الأطول بين السادة الوزراء , وزارات مثل الإعلام, الزراعة, المواصلات, الثقافة وغيرها اقترب الوزير بها من ربع قرن, بل فيهم من تجاوز الربع قرن بشهور.
فى تاريخ وزارة الدفاع؛ أو حتى حين كان اسمها وزارة الحربية، من قبل؛ لم يشغل أى وزير الموقع؛ لمدة مشابهة؛ المشير عبد الحكيم عامر؛ تولى الوزارة من سنة 1954 وحتى سنة 1965؛ وظل قائداً عاماً ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة حتى يونيه سنة1967؛ المشير أبو غزالة؛ ظل وزيرا حوالى ثمان سنوات .
لكن تجربة المشير طنطاوى مختلفة كثيرا عن تجربة الوزراء فى عهد الرئيس الأسبق مبارك من الذين شغلوا مواقعهم لفترات أطول، المعروف إدارياً أن بقاء مسؤول فى موقعه مدة طويلة يخلق حالة من الترهل الإدارى والتكلس الوظيفى، حيث يصبح الأداء بعد فترة روتينيا وبيروقراطياً أكثر، نمطية وتكرار ، دون تجديد أو إضافة وتراجع للإبداع؛ ومع طول بقاء المسئول فى موقعه الوظيفى؛ يمكن أن يتحلق حوله عدد من المعاونين والمساعدين؛ يصبحون مع الوقت مراكز قوى؛ يمنعون غيرهم من الترقي ويغلقون الطريق أمام الوجوه الشابة والأجيال الجديدة، بما يخلق حالة من الحنق والتذمر المكتوم؛ وفى بعض الحالات قد يتسرب الفساد إلي بعض الممارسات وإلى بعض الأسماء؛ يحدث ذلك عالميا؛ فى كل بلاد الدنيا؛ بما فيها الولايات المتحدة نفسها، مكارثى والمكارثية نموذجا ، وجرى فى الاتحاد السوفييتى أيضا.. وعندنا حدث أنه بمجرد ترك بعض الوزراء مواقعهم تكشفت العديد من الأمور السلبية؛ وصلت إلى بروز بعض حالات فساد فجة وأحيلت إلى القضاء؛ إحدى الوزارات غادرها الوزير ليكتشف من جاء بعده أن هناك ديونا مستحقة على الوزارة تجاوزت 13 مليار جنيه، فضلا عن مظالم إدارية عديدة وملفات فاحت رائحتها وجب أن تفتح ويتم التحقيق فيها، وصلت بعض الحالات إلى القضاء.
فى حالة وزارة الدفاع المشير طنطاوى الأمر يختلف كثيراً، هناك قواعد وضوابط صارمة تضمن الترقى بين الدفعات، وتحول دون سيطرة فرد أو أكثر على موقع بشكل شبه أبدى؛ هناك شروط وضوابط صارمة تنطبق على الجميع بلا استثناء، المعيار فيها الكفاءة والالتزام، هذا الحراك وفق هذه الشروط المعروفة للجميع فرض حالة موازية من التجديد والتميز، فضلا عن التفانى والإخلاص؛ وهذا يفتح المجال واسعا للتطوير المستمر..
هذه القواعد كانت موجودة طوال الوقت؛ وهو ما جعل الجيش المصرى يحافظ على احترافيته الشديدة وانضباط كل العاملين به؛ ونظراً لجسامة مهمة القوات المسلحة؛ فإن عين القيادة ممثلة هنا فى المشير طنطاوى؛ كانت على مواكبة أحدث التطورات العالمية، كل فى مجال اختصاصه؛ ولذا لم تتوقف البعثات إلى الخارج لتحصيل الزمالة العسكرية" الدكتوراه" من كبرى الأكاديمات العسكرية فى العالم، ويواكب ذلك أيضا متابعة كل ما هو جديد ويناسب بلادنا واحتياجاتنا، ويغطى مطالب الأمن القومى المصرى والعربى.
عادة يتخرج الطالب من الجامعة ويعين فى وظيفة؛ ويغلق بذلك باب التعلم والدراسة؛ ويكتفى بالوظيفة والخبرة القائمة على تراكم سنوات الخدمة فى موقع بعينه؛ يمكن أن تجد موظفا يحكى بفخر أنه ظل على هذا المكتب أو ذاك ثلاثون عاماً متصلة دون أن يبرحه؛ والواقع أن ذلك لا ينتج خبرة ممتدة أو متميزة، لكنها تكون خبرة سنة واحدة مكررة 30 أو 25 مرة؛ فى القوات المسلحة الأمر مختلف؛ لابد من تحصيل علمى جديد ومستوى آخر من الدراسة مع كل مرحلة وكل رتبة؛ وهكذا يظل التحصيل العلمى متواصلا ومستمرا وليس هناك من يقضى عمره فى موقع واحد؛ بل لابد من التنقل كل فترة لأسباب عديدة من بينها اكتساب المزيد من الخبرات والتجارب.
حافظ المشير طنطاوى على تلك التقاليد والقواعد؛ وزادها رسوخا وأضاف إليها الكثير، والواقع أنه تمتع بعدة سمات أفادتنا جميعا، أبرزها أن كان لديه تواضعا جما وزهدا حقيقيا، أو ما يكن تسميته «رضا تام» بما قسمه له الله، وكان يدرك أن أى إنسان فى موقع، مهما طال الزمن به، سوف يكون أدى دوره يوما وعليه أن يهيئ الطريق لمن يجيئون بعده، لا أن يقطع الطريق عليهم، وهو فى ذلك كان مثاليا امتلك تطلعا دائما للمستقبل، لذا راهن على الشباب وأعطاهم الفرص، ولما تقرر أن يغادر موقعه سنة 2012 رشح الأكفأ والأكثر شبابا، وكان هو اللواء عبدالفتاح السيسى، الذى وصل إلى رتبة مشير، ليتولى موقع القائد العام، وزير الدفاع والإنتاج الحربى، وقد واصل الطريق بعزم أكبر وحماس أشد، حتى ترك موقعه بتكليف من الشعب المصرى ليتولى مهمة رئاسة الجمهورية.
ميزة أخرى تمتع بها المشير طنطاوى، هى قدرته الفائقة على التمييز بين ما هو وطنى وما هو سياسى، وقد حرص على أن يتجنب كل ماهو سياسى، مقتضيات الواقع والشأن الجارى يوميا يفرض ذلك، أما ما هو وطنى فهو الثابت والمؤكد، وهذا ما يجب أن ينحاز له الجيش، قادة وضباط وجنودا، ليس - فقط- انحياز لكنها عقيدته، والجيش المصرى ارتبط ارتباطا وثيقا بالدولة الوطنية منذ أن تأسست مطلع القرن التاسع عشر، وحتى يومنا هذا، وهكذا فى سنوات التسعينيات وما بعدها، حين هبت رياح الفوضى العاتية وبان للجميع مدى الترهل الإدارى فى كثير من القطاعات، ظلت القوات المسلحة، الحصن المتين الذى يستند عليه الجميع ويأمنون به وله.
حدث خلال حكومة د. أحمد نظيف الثانية أن وقعت أزمة فى إنتاج وتوزيع رغيف الخبز، كانت الأزمة خانقة، وبات المجتمع مهددا، وعجزت وزارة التموين عن التصرف، الأمر الذى فتح باب اللغط والتكهن السياسى، وامتلأ الشارع وقتها بالشائعات، هنا كلفت القوات المسلحة بالتدخل، وفورا تم إنقاذ الموقف وحلت المشكلة - كان هذا التدخل السريع والمنقذ، رسالة إلى الشارع المصرى بأن يأمن بوجود القوات المسلحة، وأن يثق فى أنها قادرة على التدخل فى الوقت المناسب.
وتصور البعض وقتها أن هذا الأداء المتميز من القوات المسلحة، سوف يتم توظيفه أو استثماره سياسيا، لكن المشير طنطاوى كان واضحا تماما، تصرف بمنطق الجندى المجهول/ المعلوم، لم يتحدث فى هذا الأمر نهائيا، لا هو ولا أى من القادة، مهمة وطنية تم إنجازها فى هدوء وصمت تام، وإن شئنا الدقة.. وإنكار للذات.
الفصل بين ما هو وطنى أصيل ثابت وما هو سياسى، هو الذى أنقذ مصر والمصريين من نتائج الفوضى فى الفترة من يناير 2011 حتى وصلنا إلى ثورة 30 يونية، 3 يوليو سنة 2013 ابتعد المشير طنطاوى وكل القادة عما هو سياسى، تركوا السياسة للسياسيين وللشارع، واهتموا هم بالحفاظ على الوطن كله وحماية المواطنين، بلا تمييز بين مؤيد أو معارض.. انحاز المشير للقيم الوطنية، وهكذا تم الحفاظ على الدولة من الانهيار فى كثير من المواقف وصيانة الهوية الوطنية من أولئك الذين أرادوا العبث سعيا لميول طائفية وأهواء ومشاريع متشددة، وحتى تسربلت ببعض المظاهر الدينية.
حين نزلت القوات المسلحة إلى الشارع مساء 28 يناير 2011 بعد موجة التخريب التى قادتها عناصر الجماعة الإرهابية، تخوف كثيرون على الجيش وتخوف البعض منه، الخائفون على الجيش يدركون خطورة تواجد القوات فى الشوارع والميادين وسط المواطنين، قد يقع استفزاز فى أى موقف وبالفعل وقعت عدة استفزازات لكن لم يجر الجيش إلى أي منها، وظل دائما بين الوطن والشعب، الخائفون من الجيش تصوروا أنه يمكن أن يكون منحازا ضد المواطنين فى الشارع، لكن بميزان حساس ودقيق، نجح الجيش المصرى بفضل قيادة المشير محمد حسين طنطاوى وكل القادة من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فى أن يقوموا بحماية المواطنين جميعا من دعاة الفوضى والبلطجية، خاصة بعد أن تم اقتحام السجون وأطلق المساجين الجنائيين فى الشوارع، وبعد أن كسرت هيبة رجال الشرطة فى ذلك اليوم.. ولذا لم يكن غريبا أن تكون القوات المسلحة هى الحكم والطرف الذى ارتضاه الجميع يوم 11 فبراير 2011 لتولى شئون البلاد : وتلك فترة وصفحة مجيدة فى تاريخ مصر وتاريخ القوات المسلحة المصرية والمشير محمد حسين طنطاوى شخصيا، تستحق أن تدرس ويكتب عنها بالتفصيل للتاريخ وللذاكرة الوطنية.
رحم الله المشير محمد حسين طنطاوى وعاشت القوات المسلحة وتحيا مصر قوية عزيزة دائما.