الجمعة 3 مايو 2024

«فن المقال»

مقالات23-11-2021 | 13:18

كنت ولا زلت محظوظة بنشأتي في بيئة عائلية ومدرسية مُثقفة؛ رسخت لديّ حُب القراءة والاطلاع على شتى عوالم المعرفة، وكان للمقال وكُتابه قداسة في حياتنا الثقافية؛ حيث نبدأ يومنا بتصفُح مقالات كبار الكتاب في الصحف المطبوعة مع اختلاف توجهاتها، فكبرنا على أعمدة الرأي لعظماء الصحافة في مصر (مصطفى أمين، أنيس منصور، سعيد سنبل، إبراهيم سعده، محمود السعدني، جلال عامر ،موسى صبري) وغيرهم مِن أصحاب البصمة القوية على الرأي العام والقيادة معًا بقلمهم المتفرد.

وبالنظر لكتابة المقال نجد الغرب وقد صنفه نوع من أنواع الفن، الذي يستلزم معايير معينة تحيط بكاتبه؛ فهو ليس بالعمل الروتيني المُمنهج؛ بل هو الفن الذكي، الأيسر والأسرع وصولاً للقارئ، لم يتواجد بين ليلة وضحاها؛ إنما استهلك مراحل عدة في تطوره، منذ أسسه الفرنسي (ميشيل دي مونين) في القرن السادس عشر، ومنه زحف لإنجلترا وباقي أوروبا.

تعجب منه ومن بنائه المثقف والقارئ المصري -المحدود حينئذ- في بدايات ظهوره على يد العلامة (رفاعة الطهطاوي) عام ١٨٠١ كمرحلة أولى، مما جعل كُتاب مرحلته الثانية يَعمدون إلى تنحية أسلوب التكلُف والتعقيد فيه ويستبدلونها بكتابة تلقائية وأكثر بساطة في العرض؛ جاءت شافية ووافية بقلم (جمال الدين الأفغاني).

وبالدخول في مرحلة تميزه الثالثة؛ نجدها وقد تأثرت بالاحتلال الأوروبي للشرق؛ مما جعلها مُغلفة ببعض النزعات الحزبية والطائفية، وكان حامل لواء تلك الفترة (عبد الرحمن الكواكبي)، ثم استقامت اللغة العربية بعدها على خط واحد وبأسلوب مُستساغ، وظهرت أكثر مرونة، وبدأت تتأثر بالثقافة الغربية مع ظهور قلم دكتور (طه حسين) وسطوع قلم أدباء المهجر أمثال (ميخائيل نعمة ومي زيادة).

ومع جلاء الاستعمار وإعلان الجمهورية وليومنا هذا تأرجح فن المقال بين السياسي والاجتماعي والديني والثقافي والأدبي في لغة ومصطلحات شبه موحدة قد تختلف من كاتب لآخر في درجة تبسيطه للعرض وآخر أكثر تعقيداً.

ومن وجهة نظري فإنه لا جدوى من تقديم مقال إن لم يطرح فكرة أو تعليق على موضوع ما، أو رؤية في قضية معينة، وهو ما يقودنا إلى وجوب وفرة المعلومات الإضافية لدى الكاتب بشرط التنوع وتعدد مصادرها الموثوق فيها - من كتب أو دراسات -، وعدم قصرها على معلومات الميديا والفضائيات، مع وجوب تمتعه بالاستقلالية؛ فلا يواكب الريجة من أجل غرضٍ ولا يُعارض لمجرد إثبات الذات.

 ولابد أن تتسم شخصية كاتب المقال بالتواضع والبُعد عن الكِبر؛ حيث لا خجل من معاودة كتابته أكثر من مرة وقراءته مرات، بل ولا حرج من عرض مسودته على المُستأمن من الأصدقاء للتبصر بمرئياتهم وهو ما يُثقل من جودة ما يُقدم .

وتأتي المعضلة الأكبر التي يمكن أن يقابلها أي كاتب؛ وهي تعدد الرؤى والآراء للقراء؛ فلا مجال لرضا وإجماع الكل، فمنهم من قد يؤثر فيه المقال سلبًا أو إيجابًا، وتلك عقبة تستلزم ذكاءً في العرض بدون ميوعة ولا مُداهنة بالتوازي مع عدم استخدام الفجاجة والاستفزاز؛ فيستطيع القارئ عند مطالعته المكتوب حتى لو مختلف عن فكره أن يحترم المقال وصاحبه.

أما العنصر الأهم؛ فهو اختيار عنوان المقال؛ فهناك العنوان الجاذب الذي يعتلي مقالًا خاويًا؛ مما يفتح باب الانتقاد ويصرف القراء عنه ولو من الوهلة الأولى، وهناك العنوان الفاتر التقليدي والذي لا يشد القارئ بالرغم من دسامة فحوى المكتوب؛ وهو ما يوجب اجتهاد وذكاء من الكاتب من أجل الوصول للاتزان الكامل بين العنوان والطرح.

خَفُتت الصحافة الورقية في ظل عصر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي وأصبحت المنصات الإلكترونية منبراً للمطالعة متاحاً للعامة؛ فزادت مسؤولية الكاتب؛ بدءاً من مهمة البحث والعرض وأخيراً طرح الرأي بمهنية، لم يَعُد القارئ بالساذج؛ يرضى بمن يفرض عليه رؤية موجهة بعينها، ولم يعد بالبعيد عن تقييم جودة قلم الكاتب من أول أسطر في المقال؛ ولم يعد القارئ بالغافل الذي يقبل المقال المُعلَب والجاهز في كل المناسبات بلا إضافة جديدة ؛ لذا لابد أن ينتبه كل كاتب يحمل المقال توقيعه لأمانة الفكر ومصداقية الطرح ؛فعند نشر ما خَطه قلمه وذُيل باسمه؛ تبدأ المُحاسبة والتقييم وربما التقويم.

Dr.Randa
Dr.Radwa