الكتاب هو عنوان التقدم الفكري والحضاري ورقي المجتمعات؛ والذي كان ولا زال مُتنفسًا وعلامة لازدهار أي حضارة، واختفاؤه كان مؤشرًا لمحنات الغزوات والحروب البربرية كما في عهد (الهون) و(الواندال) حيث غرقت أوروبا في بحر من الظلمات، وهو الرمز الأول لديمقراطية البلاد وزخمها السياسي؛ وليس أدل على ذلك من لجوء ديكتاتورية الأنظمة في القرون الماضية إلى محاكم التفتيش ومصادرة الكتب وحرقها؛ كمطاردة للتفكير الإنساني.
وعلى مر العصور وللكتاب قُدسية؛ عَدته الطبقة المُثقفة مُتعة وتهذيب وتربية للعقل والروح، واتخذه العامة طاقة نور لتوسيع الأفق، لكن وبالنظر للتطور العلمي والأدبي والاجتماعي وقبلهم التكنولوچي؛ نجد قيمة الكتاب وقد تأرجحت بين ميول القارئ وبين مركزية القراءة؛ مما انعكس بالسلب عليه وعلى فعل اقتنائه حيث فقد سحره وقيمته المادية والاجتماعية وضَعُف الإقبال عليه؛ وهذا لا يُعَد بالضرورة مؤشرًا لهبوط مستوى القراءة بل على العكس فقد زاد منسوبها؛ بتحول ميول القراء إلى الأدب الخفيف وإلى الحصول على المعلومة من خلال منافسين للكتاب القيم الذي يحمل بُعداً تاريخياً وعلمياً وأدبياً.
وبالبحث نجد أن أبرز منافسي الكتاب هي الصحافة سواء ورقية أو مواقع إلكترونية؛ غزت كل ميادين الفكر والعلوم والفنون ولم تعد دوريات إخبارية مباشرة وروتينية؛ مما جعلها أقوى الخصوم وأوسعها انتشارًا لأنها تلمس أغلب ألوان الكتب وتقدم السهل الموجز؛ فتلخص موضوعات وبحوث ذات قيمة تشغل مجلدات وفصول، كما تغطي قضايا شائقة وشائكة دون محدودية عرض الكتب، وهذه المنافسة تعتبر شديدة الوطأة على الكتاب الذي لم يقوى على مجاراتها طبقًا للعوامل النفسية للقارئ وطبقًا لتطور الظرف الاجتماعي.. هذا بالإضافة إلى البعد الاقتصادي حيث مجانية المواقع التي تجني أرباحها من الإعلانات دون إثقال لكاهل القارئ ماديًا مقارنة بثمن الكتاب القيم والذي لم يتنازل عن قيمته المالية على الرغم من مساعي المؤلف والناشر لمُسايرة التطور الأدبي بإخراج كتب سهلة موجزة وإلى محاولات معالجة موضوعات علمية وتاريخية بأسلوب مبسط.
ويأتي الفن السابع -السينما- كثاني المنافسين للكتاب؛ حيث تُلخص أمهات القصص ويتم إخراجها في صورة تلائم عقلية الجمهور وتتماشى مع ذائقته، وتكون المحصلة إطلاع الفرد على جانب الحكي دون لمس القيمة الأدبية للعمل أو كشف قدرات الكاتب الإبداعية.
لا يختلف الأمر عن المذياع -الراديو-الذي يَكفل عرض أغلب الموضوعات الخطيرة التي تعني الحركة الفكرية والثقافية مع يسر وصول المعلومة عبر الأثير للمستمع أيا كان مكانه دون عناء القراءة وهو ما أدى إلى مسخ الإذاعة لمعظم الموضوعات العلمية والأدبية محرضة القارئ على الانصراف عن قراءته وإجباره على تتبعها من مصادر سطحية.
لاشك أن الكتاب يواجه أشد أزمة عرفها في العصر الحديث وقد تتفاقم وتتسبب في الكساد، كما أن روح العصر تقتضي السرعة التي ضربت أحداث اليوم بلا هوادة، يدعم كل ذلك السوشيال ميديا التي تستغرق وقت جميع الأعمار - فالأمر ليس مقصورًا على الشباب- فلا يجد الفرد من وقت الفراغ ما يحمله على السعي للقراءة وخاصة القراءة الرزينة الهادئة وإذا اتيحت له فرصة الاطلاع نجده يسعى وراء ثقافة اللهو والسطحية دون الرغبة في بذل مجهود عقلي في استيعاب كتب رفيعة المستوى، لكننا كمثقفين نرفض ونجزم معًا أنه على الرغم من التكنولوجيا المتسارعة وميول ثقافة القارئ نحو المبسط إلا أن اختفاء وموت الكتاب أمراً مستحيلاً؛ لكونه ولد مع المدنية الإنسانية ولبث مقدسا للذهن البشري وطالما ذلك الأخير يعمل وينتج ويعبر فلابد أن يكون ملاذه الكتاب؛ لذا نقر بأن المكسب في نهاية تلك المعركة ستكون للكتب وكُتابها.