الخميس 27 يونيو 2024

كلمة السر فى خير أجناد الأرض

14-6-2017 | 13:58

بقلم –  لواء د. نصر سالم

للجيوش فى حياة الأمم مكانة خاصة تنبع من دورها وأهميتها، فهى سند أمتها والسياج الذى يحميها سلما وحربا، ومنذ عصور ما قبل التاريخ والإنسان المصرى يتخذ كل الوسائل للدفاع عن نفسه.

وكانت مصر قبل سبعة آلاف سنة مقسمة إلى عدد من المقاطعات التى كانت تتحارب مع بعضها البعض تارة، وتتحد لتواجه عدوا خارجيا تارة أخرى. بعد فترة من النزاعات السياسية والدينية بين هذه المقاطعات (الممالك)، كونت فيما بينها مملكتين قويتين مستقلتين، إحداهما فى الشمال، فى دلتا النيل، والثانية فى الصعيد، حتى ظهرت أسرة قوية فى حوالى (عام ٣٢٠٠ ق م) ثم استطاع أحد ملوكها المعروف باسم (مينا) توحيد مصر نهائيا، مؤسسا بذلك الأسرة الفرعونية الأولى.

 

 

الدارس لشخصية الإنسان المصرى القديم سوف يدرك للوهلة الأولى، أنه يجنح للسلم، ولا يميل الحرب، فهو صاحب حضارة مستقرة وأرض غنية بمواردها. إنه كان قويا فى سلمه وفى حربه، وكان متحضرا فى معاملة أسراه. لم تعرف مصر فى البداية تكوين جيش نظامى موحد للدولة بأكملها، وكانت تكتفى بفرق خاصة للدفاع عن الأقاليم، غير أن بواكير الجيش النظامى المصرى، بدأت تظهر أثناء حكم الأسرة الخامسة والسادسة، وخاصة عندما قام البدو القاطنون على حدود مصر الشرقية بإغاراتهم على الدلتا، الأمر الذى استدعى توحيد جميع الفرق الخاصة فى جيش واحد، كتب له النصر على هؤلاء الأعداء، وأصبحت مصر بعدها فى حاجة إلى جيش قوى يحمى أرضها ويحقق لها الأمان والاستقرار.

وفى عصر الدولة الوسطى (٢٠٥٥ ق.م-١٧٩٥ ق.م) تمردت بلاد النوبة فتوجه إليها الملك سنوسرت الثالث على رأس جيشه أكثر من مرة للحفاظ على وحدة أراضيه، ويذكر أنه ترك لوحة عليها نص يقول «إنه برئ من أى ابن يأتى من بعده ولا يحافظ على حدود مصر وتسقط الدولة الوسطى ويغزو الهكسوس مصر ويذيقون شعبها مرارة الاحتلال فيوحد المصريون صفوفهم، ويتسلحون بأقوى العتاد ويتناقل المصريون الراية لتصل إلى «أحمس» ليواجه الهكسوس أينما وجدوا ويطاردهم خارج البلاد حتى يتم القضاء عليهم نهائيا وتخرج مصر من هذه الحرب بعدة دروس أهمها:

• لا إمكانية لتحقيق أمن البلاد وازدهارها إلا بتكوين جيش قوى يصون لها كرامتها ويشعر جيرانها بقوتها.

• أن الحكام والقادة العسكريين أدركوا أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع، ويبدأ عصر الدولة الحديثة (١٥٥٠ ق.م -١٠٦٩ ق.م) أو عصر الإمبراطورية وتصبح (طيبة) عاصمة مصر الإمبراطورية وتنطلق منها الجيوش وتقام الحاميات وتزدهر صناعة السلاح والمعدات الحربية ويزداد الجندى المصرى خبرة ومهارة، لتزدهر أعظم فترة عسكرية فى تاريخ مصر ويصبح لمصر جيش واحد، حتى صار هذا العصر ذا طابع عسكرى. وأصبحت ملامح الجيش المصرى واضحة، فالسرايا والفرق محددة العدة والعدد وتحمل أسماء الآلهة والملوك، وهناك فرقة الرماة، وفرقة المركبات وفرقة الأقواس التسعة. وسرية آمون، وسرية بهاء قرص الشمس وأصبح هناك أيضًا ما يعرف باسم «حملة الأعلام» ويسجل التاريخ الكثير من المعارك وأشهرها معركة «مجدو» التى جرت فى عهد الملك «تحتمس الثالث» وهو أول من نظم الجيوش وقسمها إلى قلب وجناحين، وأول من درس ساحة القتال قبل أن يخوض المعركة، وأول من نفذ الحرب الخاطفة.

وتستمر الانتصارات من أسرة إلى أسرة، لأن مصر كانت تنتهج من البداية منهج السلام مع جيرانها، لكنه كان سلام القوى الذى يملك حماية هذا السلام، وبقدر ما كان الجيش المصرى أداة للدفاع عن مصر وممتلكاتها فى الخارج، فقد كان أيضًا أداة لتحقيق الاستقرار الداخلى الذى مكن لنا وللبشرية إنجاز الإبداعات التى تقف شامخة على أرض مصر معبرة عن عظمة حضارتها وعن قدرة شعبها الفذة فى السلم والحرب، كما كان الجيش أداة لتأصيل القيم والتقاليد والمبادئ والمثل وعاملا فعالا فى الإسهام فى تحقيق الازدهار فى الكثير من جوانب الحياة على أرض مصر، وفى خارجها الأمر الذى يجسد الدور الحضارى الذى تفرد به الجيش المصرى عن غيره من جيوش العالم القديم.

كان هذا وأكثر جزءا يسيرا من تراث لا يحصى للجيش المصرى وللجندية المصرية عندما تقلد محمد على باشا ولاية مصر بإرادة زعماء الشعب فى ١٣ مايو ١٨٠٥ م، وقد رأى منذ توليه السلطة أن طليعة زحفه لبناء إمبراطورية قوية هو الجيش، فبدأ بإدخال النظام الحديث فى القوات البرية والبحرية ونظم التعليم العسكرى والمدارس وكذا الصناعات الحربية، وأنشأ أسطولين بحريين أحدهما فى البحر الأحمر والآخر فى البحر المتوسط لغرضين محددين الأول عسكرى والثانى اقتصادى تجارى، ويتفق المؤرخون أن معركة نيفارين التى تجمع فيها الأعداء وتمكنوا من تدمير الأسطول المصرى، كانت هى البداية للقوة البحرية الحقيقية فى عصر محمد على، الذى لم تنل من عزيمته هذه الهزيمة، فبعد عامين من العمل الدائب (١٨٢٩م) أعاد بناء الأسطول أقوى مما كان لأنه أيقن أن بناء البحرية يجب أن يتم فى مصر ذاتها، حتى لا يقع تحت تسلط القوى الأوربية المختلفة وكذلك لترشيد النفقات.

لم تكن حروب محمد على خارج مصر، عديمة الجدوى، بل إن الحروب المصرية مع اليونان أكسبت مصر مكانة دولية كبرى، لأن هذه هى أول حرب أوربية خاض الجيش المصرى غمارها، وبرهن على كفاءته وأثبت أنه يضارع أرقى الجيوش الأوربية فى ميدان القتال، وكان من نتائجها اكتساب مصر مركزًا دوليًا مرموقًا.. حيث فاوضت الدول الأوربية مصر رأسًا دون وساطة الدولة العثمانية.

ترى هل كان ذلك ماثلًا أمام عينى الفريق أول عبدالفتاح السيسى، القائد العام للجيش المصرى يوم الثلاثين من يونيه عام ٢٠١٣، عندما رأى الشعب الذى انتفض يدافع عن حريته وحقه فى تقرير مصيره، وهو تدبر له مذبحة تطيح بكل أحلامه وآماله فى امتلاك إرادته.

هل رأى أمامه سجل تاريخ الجيش المصرى الذى لم يتهاون يوما فى الدفاع عن شعبه والتضحية بكل غال ورخيص من أجل رفعته؟

هل رأى الفلاح المصرى أحمد عرابى وهو يمتطى صهوة جواده واقفا أمام خديو مصر ويقول له «لقد خلقنا الله أحرارًا ولن نستعبد بعد اليوم» يقولها لخديو استعان بأعداء وطنه على شعبه، لم يخش عرابى أيا من الخديو ولا الجيش الإنجليزى الذى يحتمى به، لأنه آمن بدوره ومهمته التى تحتم عليه الوقوف إلى جانب شعبه فى وجه الظلم والطغيان مهما كانت التضحيات.

هل رأى جمال عبدالناصر وصحبه يوم حملوا رؤوسهم على أكفهم ليخلصوا بلدهم وشعبها من الملك الفاسد والاستعمار الإنجليزى والظلم الاجتماعى والظلم السياسى، وهل رأى عبدالناصر وهو يخلص رقبة القرار المصرى من ذلك القيد الذى يلف حولها ويسوقه، حيث يشاء والمتمثل فى احتكار الإنجليز لتسليح الجيش المصرى.. يوم عقد أول صفقة سلاح شرقى مع «تشيكوسلفاكيا»، ويومها جن جنون إسرائيل وأصدر رئيس وزرائها «ديفيد بن جوريون» أوامره إلى وزير دفاعه «موشى ديان» بأن يستعد لدخول حرب مع مصر لتدمير جيشها قبل أن يستوعب السلاح الشرقى المتطور. وعندما تآمر علينا الإنجليز والفرنسيون وإسرائيل عام ١٩٥٦، رفضنا الإنذار الإنجلو فرنسى وقاومنا وكسبنا احترام العالم أجمع ووقوفه إلى صفنا فى وجهه العدوان الثلاثى الذى اندحر ورحل، لتنطلق أمتنا فى بناء صرح حضارتها من جديد بكل عزة وإباء.

وعندما تآمر الأعداء علينا عام ١٩٦٧ ونفذوا خطتهم التى أسموها «خطة اصطياد الديك الرومى» واحتلوا أرضنا، وظنوا أنهم هزمونا.. ولكن إرادتنا التى لم تهزم هى التى أعادت بناء جيشنا من جديد ليهب بعد ست سنوات محطما قيود النكسة ويقضى فى ست ساعات فقط على كل الدفاعات التى شيدتها إسرائيل طيلة السنوات الست. ويجبرها على الجنوح إلى السلم وإعادة أرضنا غير منقوصة.

إن هذا التاريخ الطويل من الصبر والمثابرة والتضحية والعزة والكرامة.. هو التاج المرفوع على رأس كل قائد وضابط وجندى مصرى، والذى يحرص كل منهم على أن يظل رأسه مرفوعا كى لا يسقط هذا التاج من فوق رأسه.

كان يوم الثلاثين من يونيه ٢٠١٣ هو اليوم الذى شحذت فيه كل همم الرجال وماضيهم وحاضرهم واستنفرتها لنجدة شعبها وعدم تركه فريسة لجماعة أعماها هوى السلطة وقررت الفتك بكل من يقف فى طريقها. فهب جيش مصر الأبى فى الثالث من يوليو، ليضع الأمور فى نصابها ويترك لشعبه حرية اختياره وتقرير مصيره.

هو نفس اليوم الذى كشر فيه أهل الشر عن أنيابهم مهددين الجيش وقادته بكل ويل وثبور، بالضغط على خطط التسليح وحظر استكمالها.. إضافة لكل الضغوط السياسية والاقتصادية.

لقد تمت كتابه تاريخ جديد للجيش المصرى بعد الثالث من يوليو ٢٠١٣ يوم قرر قائده الذى كان وزيرا للدفاع سرعة تدبير أحدث الأسلحة التى تلزم جيش مصر ليظل هو مركز الثقل الإقليمى، وأمان الشعب المصرى لقد اختار أكثر من مصدر لتسليح الجيش المصرى بالسلاح الذى يضمن له تفوقه النوعى، فكان السلاح الروسى المتقدم فى البر والبحر والجو، بل والدفاع الجوى الذى لا يسمح لأى طائرة معادية بعبور أى خط من خطوط حدودنا فى أى اتجاه مهما كانت قدراتها.. ولتحقيق التنوع والتعدد فى مصادر التسليح تم إتمام صفقات التسليح المتقدمة مع فرنسا لنضيف إلى قدرات قواتنا الجوية الطائرة الرافال المتقدمة بإمكاناتها التى لا تقل بل تفوق ما لدى أعدائنا وكانت الفرقاطة فريم التى تمتلك قدرات قتالية عالية.. ومع زيادة مجالنا الحيوى واتساعه لتأمين الممرات الملاحية وحماية حقول الغاز والبترول فى مياهنا الاقتصادية، لزم إحداث نقله نوعية فى قدراتنا البحرية تمثلت فى سفينتى الاقتحام السريعتين (ميسترال) التى تشكل كل منهما قلعة عائمة، فهى ليست سفينة حربية فقط بل تحمل فى داخلها أربعة زوارق اقتحام سريعة، وتحمل كتيبة دبابات أو مشاة ميكانيكية ثم هناك الهليوكبترات التى تحملها بداخلها وعلى سطحها، وتضم أيضا مستشفى ميدانيا ومركز قيادة.. علاوة على تجهيزها بنظام دفاعى جوى متقدم، أما ألمانيا فقد حصلنا منها على أحدث الغواصات من طراز ٢٠٩ ذات القدرات القتالية الفائقة.

لقد أصبحت مصر تمتلك أسطولين بحريين أحدهما فى البحر المتوسط والآخر فى البحر الأحمر، ويستطيع كل أسطول منهما منفردا أن يؤمن مجالنا الحيوى فى كل مسرح من هذين المسرحية البحريين.

إن تصنيف قواتنا المسلحة ضمن أقوى عشرة جيوش فى العالم، لم يأت من حجم ولا نوعية التسليح فقط.. ولكن لما يملكه من رجال لديهم خبرات قتال عالية ورثوها عن أسلافهم ويزيدونها كل يوم من خلال التدريبات القتالية المتقدمة سواء المنفردة أو المشتركة مع كافة نظرائهم من الجيوش الأجنبية بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف شمال الأطلنطى إلى دولة روسيا إلى معظم الدول العربية وخاصة دول مجلس التعاون الخليجى التى لا تتوقف التدريبات المشتركة معهم فى الخليج العربى أو فى البحر الأحمر.

إن الجيش المصرى النظامى نجح فى اختبار صعب وهو الحرب غير المتماثلة على الإرهاب الذى خرج على كل الأعراف والأديان واتخذ من المدنيين العزل دروعا بشرية، واستطاع الجيش الباسل أن يستل هؤلاء الإرهابيين من بين السكان المدنيين بأقل خسائر بل وفى كثير من الأحيان بدونها.. واستطاع إيصال رسالة ردع حاسمة خارج حدودنا لكل من يحاول تهديد مصالحنا أو أمن أى من أبنائنا.

وكما كان جيش مصر طليعة أمته فى كل العصور فإنه اليوم يبنى لأفراد الشعب ومعهم صرح حضارتهم للتنمية فى كل المجالات سواء بالخبرات القيادية والإدارية المنضبطة والمتفتحة أو بالمجهود الموجه من العناصر المتخصصة فى مجالات عملها ومنها أمثلة ليست قليلة حققت معدلات غير مسبوقة فى حفر قناة السويس الجديدة وتشييد الطرق وإصلاح الأراضى الصحراوية وزراعتها وتشييدد المدن الجديدة.. الخ.. إن كل السر فى هذه القدرات الفائقة هى الإنسان.. نعم الإنسان المصرى على مر العصور.