الخميس 16 مايو 2024

عزالدين نجيب: لابد من مشروع ثقافي يقوم على فلسفة تعتبر المواطنين شركاء

غلاف الكتاب

ثقافة9-12-2021 | 21:26

محمد الحمامصي

 

تعكس مقالات كتاب "المثقفون والعسل" للناقد والفنان التشكيلي عز الدين نجيب المنشورة في أزمنة مختلفة بصحف مصرية وعربية متفرقة، واقعًا ممتدًا في حياتنا الثقافية والسياسية قد تبدو في سياقات تختلف عن حياتنا اليوم، لكن يجمعها موضوع واحد هو "المثقف والسلطة"، بكل ما يعتمل تحت سطح الواقع وفوقه من صراعات وكوابح، أو من نجاحات بطعم العسل، أو عطاءات بطعم المرّ، أو من تجارب امتزج فيها المرّ بالعسل.

ولعل هذه الثنائيات متلازمات تاريخية وأبدية لهذه النقائض، وسوف تظل ما دامت بقيت قضية السلطة ـ حتى لو كانت وليدة ثورة وطنية ـ هي ثبات الأوضاع واستتاب النظام والانفراد بالسلطة وعدم قبول صوت آخر يختلف معها، على عكس قضية "المثقف الحقيقي"، إذ تقوم على حرية التعبير وقيام الديمقراطية، وعلى الحلم بالتغيير الجذري نحو التقدم، مما يستلزم تعدد الأصوات واختلافها سعيًا إلى الإصلاح وتحقيق آمال الوطن.

لم تقتصر ملامح الصورة الثقافية في الكتاب الصادر عن مؤسسة أروقة على الجوانب السلبية، بما يجعل المثقف دائمًا مفعولًا به: مضطهدًا أو مهمشًا بيد السلطة، بل ألقيتُ الضوء ـ وفقا لنجيب ـ "على مواقف عُلُوِّه فوق المحنة، وكيف أحالها في أحيان كثيرة إلى دوافع للعطاء والإبداع، وإلى حلم كبير بنهضة الوطن، حلم يتطهَّر من مرارات وضغائن القهر الذي لقيه من السلطة جزاءً لما قدمه من عطاء وإخلاص، حلم يستخلص من الماضي تجارب مضيئة تصالحت فيها السلطة معه – في لحظات استثنائية خاطفة، فأثمرت تلك التجارب نتائج رائدة تمثل ازدهار التنوير وشيوع الجمال، ولا تزال ملهمة نحو وضع مشروع قومي للنهضة الثقافية، وهو ما اجتهدتُ لصياغة أهم ملامحه عبر صفحات الكتاب، الذي يجمع بين كونه شهادة على عصر، ومسيرة عمل ثقافي ووطني، ورؤية فنان ومثقف قضيته هي الحرية والعدالة والتغيير".

يأتي الكتاب في خمسة فصول، تندرج تحتها العديد من العناوين، عناوين المقالات التي تحمل رؤية متكاملة للمشهد الثقافي ما له وما عليه لفترة تمتد من ثورة 1952 وحتى الآن، عناوين الفصول جاء كالتالي: "قبل انكسار المشروع القومي للثقافة"، و"المثقفون بين العطاء والجزاء"، و"وزارة الثقافة وتعميق عزلة المثقفين"، "عندما تختل بوصلة المثقفين"، "حوار بين السياسة والثقافة".

يقول نجيب أن علاقة المثقفين بالسلطة ظلت في مصر- منذ قرن مضى - علاقة متوترة بالغة التعقيد، محاطة بالشكوك وضعف الثقة المتبادل، أو انعدامها في أغلب الأحيان، خاصة بالنسبة للمثقفين المنتمين إلى الفكر الاشتراكي، والأخص؛ من المنتمين إلى أحزاب سياسيه معارضة أو من المقربين من دوائرهم، وبالنسبة للسلطة كانت تستوي في الشكوك والثقة المفقودة كل النظم السياسية، مَلَكية كانت أم جمهورية، ليبرالية أم شمولية، إشتراكية أم رأسمالية، إنغلاقية أم انفتاحية، وتزداد درجة التعقيد والتربص من جانب السلطة إذا ارتبط المثقفون بتنظيمات نقابية، لاقتناعها بأن هذه التنظيمات قادرة على حشد قوى المعارضة بين العمال أو المهنيين، وعلى تنظيمها في كتل جماهيرية مناوئة لنظام الحكم.

ويلفت إلى أن هذه العلاقة مرت بمحطات عدة يمكن أن نتبين بعض ملامحها في فصول هذا الكتاب، لعل أكثرها ازدهارًا وعسلًا هي محطة ثروت عكاشه، أو مشروعُه ذو الأعمدة الخمسة كما سميته في الفصل الخاص به، وتتفاوت بقية المحطات بين أجواء الغروب الشاحبة التي لا تَبِين في ظلالها الألوان والملامح، وبين الظلام الدامس الذي لا تلمع فيه إلا طلقات الرصاص القاتلة من بنادق تنظيمات الإرهاب ومواجهة التطرف الديني، بعد أن سمح لها نظام السادات بملء الفراغ الثقافي الشاسع بعد تجريف ثقافة عصر ثروت عكاشه مع حلول عصر الانفتاح الاقتصادي، بالتزامن مع المد السلفي الذي منحه الرئيس السادات الضوء الأخضر ليقوم بتصفية الناصريين والشيوعيين ورموز الثقافة والفكر نيابة عن سلطته، فكانت نهاية حياته ونهاية حكمه على أيديهم صباح احتفاله بذكرى يوم مجده!
 
ويتابع نجيب "إذا بحثنا عن قاسم مشترك بين المحطات الثقافية التي أعقبت محطه ثروت عكاشه، سنجد أنه يتمثل في عزلة مريرة للثقافة والمثقفين عن الشعب، وشعورهم بالغربة والنفي المعنوي وتوهان الرؤية وشحوب الهوية لديهم، حتى أصبحوا فرسانًا بلا ميدان، بعد أن غاب المشروع القومي للثقافة، وبعد أن تخلت الدولة عن مسئولياتها تجاه الثقافة، وضاعت البوصلة من أيدي بعض المثقفين، فراحوا يُغرِّدون في منافيهم الاختيارية، حيث لا يسمعهم غير أنفسهم، فنسي الشعب أمرهم، واكتفى بثقافته الشعبية الموروثة بكل ما تحمله من سلبية وتواكل، ومن خرافة ولآلئ، حتى أصبح لقمة سهلة وسائغة لأصحاب الفكر الوهابي ودراويش ابن تيمية وسيد قطب، بكل ما جلبه نهر هؤلاء من موجات التطرف والإرهاب وتغييب العقول".

ويضيف "إذا كانت الثقافة هي مفتاح الوعي والتغيير لأية أمة، وإذا آمنا بأنها ضرورة لبناء الإنسان ولتشكيل قيمه وسلوكه وقدرته على الاختيار وإعمال العقل وعلى ممارسة الحياة في مستواها الأعلى الجدير بالإنسان، فإن حرمانه منها هو بداية الطريق للتخلف والانهيار القيمي، وللتطرف الديني وصولا إلى الإرهاب أو إلى القبول بالاستبداد.. وهكذا فإن مصير الثورتين الأخيرتين (عامي 2011 – 2013) يظل في مهب الريح إذا لم يتضافر المثقفون مع الدولة الوطنية لإرساء مشروع للنهضة الثقافية، تتجه بوصلته إلى القواعد التحتية بالمجتمع الأكثر احتياجا للتنمية والأكثر حرمانا من الثقافة، وأرى أن من الضروري أن يقوم المشروع على فلسفة تعتبر المواطنين شركاء وليسوا مجرد متلقين، بمعنى أن يعتمد العمل الثقافي على الحوار والجدل مع المواطنين لا على التلقين الأحادي الاتجاه، وعلى إدماج فنونهم وثقافتهم المتأصلة في وجدانهم بداخل الفنون والمواد التي تقدم إليهم من فنون النخبة، وعلى إذكاء طاقاتهم الإبداعية حتى يقدموا فنونهم الشعبية كرافد رئيس في النشاط الثقافي، لا الاعتماد على فنون المهرجانات والصالونات "والبيناليات" اللاهثة خلف أساليب الفن الغربي بعيدا عن مزاج المصري، وأن تتم شراكة بروتوكولية بين وزارات الثقافة والتعليم والشباب والإعلام والشئون الاجتماعية وغيرها على أساس أهداف وخطط وبرامج ثقافية مشتركة لإقامة النهضة الثقافية المرجوة، وأن يكون لقوافل الثقافة الجوالة دور الشرايين التي تربط المركز بالأطراف في شتى المدن والقرى والنجوع، وهي تحمل الزاد الثقافي للمحرومين منه، وأن تستعيد الهيئة المسئولة عن ذلك اسمها القديم "الثقافة الجماهيرية".

ويؤكد أهمية أن يتضافر كل ذلك مع مشروع قومي لمحو الأمية الهجائية، وآخر لمحو الأمية الثقافية - وهي الأخطر - يقومان على مناهج غير تقليدية في نقل الخبرة المعرفية والثقافية معا كوحدة عضوية. وقد حاول د. جابر عصفور - وزير الثقافة بين 2014 – 2015 - أن يضع مثل هذا المشروع في حسبانه، وأفصح أكثر من مرة عن انحيازه لهذا الاتجاه، لكنه عجز عن تحقيقه، ربما لأنه لم ينبع من إرادة الدولة ومن قناعتها بأهمية الثقافة كاستراتيجية ضمن بنائها وبناء الإنسان في المرحلة الراهنة!