الحياة ما بعد الجائحة.. حينما يُبعث الأمل من قبره
واجهت البشرية على مرّ التاريخ موجات من الأمراض المختلفة، أثّرّت على نفسيات وسلوك كّل من الأفراد والمجتمعات، أجمع علماء النفس والاجتماع على أنها وإن اختلفت أزمنتها وأماكنها وأشكالها، فإنها كانت قادرة على نقش أنماط سلوكية وتغيّرات نفسية واجتماعية مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا، تصنّف جميعها في خانة الخوف الجماعي من تفّشي المرض و عدم القدرة على السيطرة عليه.
فالملاحظ أنّه أثناء فترة انتشار الوباء، لا يقف الإنسان في مواجهة مُسبب المرض أو أعراضه الصحية ومضاعفاته فحسب، بل يواجه أيضا انعدام يقينه المرتبط أساسًا باحتمالات الإصابة بالداء، أو إمكانية كونه حاملا أو ناقلا له، أو الشّك في وجوده في مكان موبوء، عوامل كلّها تساهم في دفعه لأن يكون غير قادر على الوثوق حتى في طريقة عيشه العادية، مما يُولّدُ لديه ضغطا يترجَمُ مع مرور الأيّام، إلى حالة مرضية عضوية، نفسانية أو عصبية، تكون أشّد وطأة وخطورة من الوباء ذاته.
إنّ الخوف الذّي يحّس به الإنسان، في فترات حياته العادية ولدى مواجهته للخطر، يتراكم في دهاليز النّفس البشرية المعتمة، فنرى الشّخص الخائف يلجأ إلى الدفاع عن نفسه بالإسراف في التسلّح، هكذا تصرّف يدفع بالخائف الثاني إلى أن يحذو حذو الأوّل، وهكذا دواليك، حتى يصبح الجميع عدّو الجميع.
وهذا ما لمسناه تحديداً خلال فترة جائحة "كورونا"، فالفيروس المعدي راح يثير أعظم المخاوف، ويضع البشرية كلها في غرفة الحجر الصحي. فهو حين ينتشر في بلد، لا بد له من أن ينتشر في بلد ثانٍ بالضرورة، كأنه بذلك ينتقل من غرفة النوم إلى غرفة الجلوس إلى الصالون، إلى أن يغزو البيت كّله.
حتّى بات الجار والقريب والصديق محل شك، وتغيرت أشكال العلاقة بين الأفراد في العائلة نفسها، ما أسّس لظهور اختلالات سيكولوجية بالغة الخطورة، سيتأذى منها البشر و يعانون انعكاساتها السلبية ربّما لسنوات أخرى، بعد زوال الوباء وعودة الحياة إلى ما كانت عليه، في حالة عودتها المحتملة.
إنّ مواجهة مخاطر احتمالات الإصابة بالمرض لوحدها، كفيلة بخلق حالة من الهلع والرّعب قد يصعب تحمّلهما، بينما يظّل الأقسى والأخطر مًرتبطًا بالمجهول والذّي ينجم عنه خوف أشّد وقلق مبالغ فيه حيال الأمراض العادية والتي قد تكون أقّل خطورة مقارنة بالوباء نفسه.
والخوف هنا، لا يتعلّق بالمصابين فقط، بل يشمل المجتمع كله بدرجة أو بأخرى، وهي حالة مرتبطة بسرعة انتشار الوباء، وعدم القدرة على توقّع متى وكيف ينتهي، وهل سيستحدث دواء فعّال من شانه إغاثة البشرية ومعالجة الحالات الخطيرة المستعصية.
يضاف إلى ذلك جهل بالمستقبل، وانعدام ثقة الشعوب إزاء حكوماتها، إذ كلّما كانت لدى الشعوب ثقة عالية في مؤسسات الدولة وخدماتها، كانت هناك قدرة على الاحتواء وتقليل حدة القلق العام وتحجيمه والعكس صحيح.
وعلى النقيض من ذلك، وفي سياقات أخرى، فالملاحظ هو أنّ الأزمات الكبرى والأوبئة تحّفز على تصاعد التدين والتردّد على دور العبادة، والمبالغة في ممارسة الشعائر الدينية، وانتشار الفضيلة ومكارم الأخلاق، حتّى لو كان كّل ذلك مبنيًا على أسس كلّها رياء ونفاق وخبث.
لقد مضى عام كامل ونيّف على بدء جائحة كورونا، أغلقت خلاله البشرية باب الكرة الأرضية خلفها ودخلت إلى غرف الوقاية والحجر المنزلي الطوعي. إنها المرة الأولى التي يتقطع فيها التواصل بين البشر والدول، وحتّى بين المناطق في الدول نفسها. الأوبئة السابقة كان لها أثرها البالغ العميق على حياة الشعوب، تقتل منهم ما تقتل، ولكنها لم توقف الحياة نهائياً، لأن التواصل نفسه بين شعوب الأرض في تلك الأزمنة لم يكن كتواصل البشر اليوم.
وبالرّغم من أنّ العولمة أسقطت الحدود بين الدول والشعوب والثقافات والأعراق، وحوّلت شبكة الإنترنت العالم إلى بيت واحد كبير بغرف كثيرة، إلاّ أنّ النّاس باتت تتوق إلى اليوم الذي تعود فيه حياتهم إلى شكلها الطبيعي، لاسيما أن الوباء أحدث تغييرا جذريا في طريقة عيشهم وتفاعلهم الاجتماعي.
إنّ مرحلة "ما بعد الجائحة" صارت تثير فضولا وجدلاً كبيرين، فالكثير من القلق يطفو على السطح، فيما يتعلق بهذا المجهول غير واضح الملامح والمقبل علينا من حيث لا نعلم.
ولو تمّعننا في كلمتي "ما بعد"، نرى أن هذا التعبير لا يطلق البتّة على شيء معروف. وهو منفرد، منذ استخداماته الأولى، بالتعبير عن مستقبل مجهول. إلّا أنّه يحمل دلالات واستشرافات لا تخلو من الواقعية. إذ يمكن لبعض المسارات أن تكشف عن النهايات قبل وقوعها. وبالتالي، يمكن توقّع ما بعد أيّ مسار أو اتجاه، بما يساهم في خروج التعريف من علم الغيب، إلى علم الافتراضات العلمية المعقولة.
في ضوء هذا التعريف، فإنّ عودة الحياة إلى طبيعتها بعد انحسار وباء كورونا المستجد، ليست بالسهولة التي تبدو عليها، إذ أنّ تغيير المعايير الطبيعية بعد الجائحة سيشّكل عائقاً سيؤرق الكثير حتما، كما أنّ عوامل كثيرة أيضًا ستساهم في تغيير رؤى ووجهات نظر عديدة، ستلقي بالقديم منها في سلّة المهملات، كاهتزاز ثقة الإنسان بالحضارة العظمى، وإدراكه المحبط المتأخّر أن حياته العادية قابلة للتحول في أية لحظة.
حتّى الطبيعة التّي ظّنّ الإنسان أنه أخضعها لسلطانه، يستيقن الآن بكّل مرارة و بالحجّة الدّامغة والبرهان البيّن الفاصل، أنّ أصغر كائن بها، و الذّي لا تبصره العين المجرّدة، بات يهدّد راحته وسكينته ويشهر في وجهه فأس الحرب ويناوله كأس الموت في كّل لحظة ومتى شاء ذلك..
إنّ الإنسان الجديد ما بعد كورونا، يحتاج إلى أنظمة صحّية جديدة وطبية بديلة تركّز على حماية الصحة أكثر مما تركز على الاستشفاء. أنظمة متطوّرة لها مصلحة بالصحة لا بالمرض، لا تخدم تجار الأدوية والتكنولوجيا والمعدّات الطبية، بل حماية الفرد وتأمين صحّته والسّهر الدّائم على استمراريته ككائن حّي له حقوق في الحياة الكريمة.
لم تكن للجائحة جوانب سلبية فحسب، إنّها أكسبتنا حكمة وتعقّلا أكثر واستطعنا بفضل ما عانيناه خلال فترة الوباء، أن نستخلص دروسًا على قدر كبير من الأهمية.
الدّرس الأهّم هو أن الفيروسات متغيّرة ومتحوّرة وفي كل مرة تأتي أقوى وأشرس، و أنّ النظام الطبي والمنظومة الصحيّة غير ملائمين ومتناقضين علميًا، طالما ألزما الناس المكوث في المنازل لمدّة طويلة، عوضًا من مّدهم بالأسلحة الرادعة للمرض التّي تمّكنهم من حماية أنفسهم وممارسة حياتهم بكّل حريّة وأمن وأمان،
لقد كنّا سذّجًا حينما صدقنا ما كان يقال عن العولمة، ها هي الدّول التّي تبنت هذا التفكير، والذّي صدقناها بكّل ما أوتينا من غباء و بلاهة، تتعامل بشكل فردي من أجل إيجاد حلول صحية واقتصادية لشعوبها لا لغيرهم، من قاطني الكرة الأرضية.
وظللنا كشعوب عربية مستهلكة، ننتظر وصول اللقاحات من الدّول المصنّعة، والتّي نجهل لحّد الآن ما الذّي تحتويه قنيناتها من عقاقير و محاليل مجهولة التركيب الكيميائي.
إنّ القادم سيشوبه الكثير من الغموض، ولن تتضح ملامحه في وقت قصير، كما يظّن أغلبية النّاس. من المؤكد أنّ الحياة لن تكون كما كانت عليه، وإن حاولت ذلك. علينا أن نتقّبل فكرة التغيير بكّل سلبياته ونكتفي بإيجابياته القليلة جدّا.
أجواء الأمن والأمان والطمأنينة التّي طالما عشناها وسعدنا بها لن تكون طويلة المدى، سيظّل الفيروس يفاجئنا ببؤر جديدة حول العالم تزهق الأرواح، وتضع شعوبا كثيرة في سجن الحجر الصّحي للمرّة الألف، حجر مرهق مضنٍ، ستنجم عنه حالات نفسية وعصبية يصعب السيطرة عليها.
العلماء والبيولوجيون سيدخلون في معركة ضارية مع الفيروس، والذّي سيجبرهم بنسخه المتحوّرة الشّديدة العدوى والمقاومة، بإعادة النظر في تركيبة لقاحاتهم وفعاليتها المناعية.
الخوف كّل الخوف، لن يكون من فيروس كورونا فقط، بل من فرضية ظهور فيروسات وميكروبات مستجّدة أخرى، يتعّمد بعض العلماء، من ذوي النفوس المريضة و الذّمم الفاسدة، تطوير تركيباتها وشفراتها الجينية، فيعكفون بكّل ما أوتوا من أدوات علمية متطوّرة على تحويلها إلى سلاح بيولوجي جرثومي فتّاك، لا يكسر شوكته لقاح ولا يمكن الاحتماء منه وتفادي أضراره بارتداء كمامة أو استعمال محلول مطّهر ولا حتّى بالمكوث في مخبأ محكم الغلق تحت الأرض.
لا أريد أن أُنعت بالمتشائمة صاحبة النظرة الظلامية، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال، إخفاء شمس الحقيقة ومجاملة مستقبل غامض هو مقبل علينا بعتاد لا يمكن الاستهانة به، عتاد مهول به كّم هائل من المخاطر والأهوال والصعاب والعراقيل، و التّي سنتعب حتما في ركوب موجتها و الانتصار عليها في وقت وجيز.
يبدو أنّه قد كُتِبَ علينا أن ننتظر ونصبر ونصطبر وأن لا نستعجّل انفراج الأزمة. لا مفّر لنا من هكذا وضع يبعث على الحيرة والقلق سوى بالرضا بحياة جديدة مرهقة، تفتقد للكثير من مرونتها المعتادة، قد فرضتها علينا ظروف بيولوجية لا يد لنا فيها البتة.
روائية وقاصّة جزائرية