الإثنين 6 مايو 2024

كرسي الاعتراف

مقالات13-12-2021 | 15:46

أتمنى من سيجلس عن يميني يكون ذا نصيحة سديدة، وإن لم يكن سأبوح له على أية حال، أصدقاء الجامعة القدامى كل منهم منهمك في عمله، ولم نعد نتقابل، صرنا أصدقاء افتراضيين بالأحرى، وزملاء عمل ماديين، مستهلكة حياتهم، كما لم يكن لديّ وقت سوى لشيماء.

أن تجلس إلى اليسار أو إلى اليمين هذا قرارك وحدك، اختيارك يحدد وظيفتك خلال النصف ساعة المحتملة، اللجوء إلى هذه المقاعد يستثمر الوقت مثل قراءة الصحف اليومية أو حل لغز الكلمات المتقاطعة أو الهروب من المقربين المزيفين ومحاولة فهم الحقيقة العارية.

مقعد لا يحتاج إلى مؤهلات سوى أن تختار أن تجلس أو لا.

انتشرت هذه الكراسي في الشوارع الرئيسية في الفترة الأخيرة حيث قامت مؤسسات المجتمع المدني بالتعاون مع رؤساء الأحياء في تثبيت كرسيين متلاصقين على رصيف واسع للمشاة، في ظهر الكرسي اليسار صندوق يحتوي على مجموعة من الأوراق البيضاء، وفي ظهر الكرسي اليمين صندوق به رسائل وشكاوى واعترافات مكتوبة بخط اليد، لا يفصل بين المقعدين سوى مسند صغير معد خصيصًا للكتابة عليه، تستطيع أن تفرغ كل همومك وأسرارك بأريحية، مزودة بقلم مربوط بدوبارة متدلية من سقف تندة للحماية من الأمطار والشمس، مزودة بالإنارة لاستقبال حالات الطوارئ لساعات متأخرة بالليل.

 وزادت شهرتها بعد ما تم عرضها على برامج مختلفة في الإذاعة والتلفزيون، فصاحب الفكرة أستاذ علم النفس الشهير  مرتضى رشدي الذي أشاد بأهميتها البالغة في مساعدة الناس على التواصل الاجتماعي الحقيقي في مواجهة التواصل الافتراضي خلف شاشات الأجهزة الباردة، كما زاد الإقبال على تلك المقاعد بعد إلزام الحكومة بارتداء الكمامة في الأماكن العامة منعًا لانتشار الأمراض المعدية.

اليوم بارد جدا أو هكذا شعرت، قررت أن أجلس إلى اليسار كي أشكي حالي، في انتظار الصديق المحتمل، انهمرت حروفي تملأ فراغ الصفحة البيضاء على خلفية سيمفونية حزينة يعزفها المطر.

أنا خريج كلية دار العلوم، عملت بجد واجتهاد في الدراسة، حصلت على تقدير يسمح لي أن أكون معيدًا ثم أستاذا في الجامعة، لكن لأسباب ما لم تحتاج الكلية إلى معيدين هذا العام، تعرفت علي طالبة في الصف الأول من الجامعة ونمت بيننا (إيه نمت دي، خليها نشأت أخف شوية) نشأت بيننا قصة حب قوية منذ تعرفت عليها وأنا في بداية الصف الرابع.

وجدت فيها نصفي الأخر وجاءت من تحتمل عيوبي قبل ميزاتي وجدت الحب الحقيقي ورأيت فيها زوجتي وأم لأولادي نتحمل معا عناد الحياة.

لم يهمني بعد قصة الحب هذه أنها أصبحت معيدة في الجامعة وصديقا تقدم لخطبتها وأهلها قبلوا به رغمًا عنها.

 ولكن الذي يهمني اكثر هو تجاهل الفتاة نفسها، فبعد ثلاث سنوات من تخرجي استمرت علاقتنا وازدادت قوة، كنا نجلس بالساعات أسبوعيًا في دراسة واستذكار الدروس الصعبة بالنسبة لها (إيه ده، واضح أنها كانت بتستغلني مش بتحبني)، أسعدني كثيرًا ما حققته من تفوق باهر.. (ده أنا كنت مغفل بشكل).

 نتقابل في وسائل المواصلات، لمصاحبتها أثناء عودتها متأخرة من المحاضرات يومي الاثنين والأربعاء، هذه الأيام كانت مميزة بوجودها بجواري، (أو وجودي بجوارها) طاقة إيجابية تعتريني لمواصلة الحياة البغيضة (غبي) تعلمت الغناء والغزل والبوح (معقولة كل ده كانت بتمثل)، كثيرًا ما جلسنا على هذه المقاعد، نتبادل الكراسي للشكوى، نهامس الماضي، نداعب المستقبل، نحتفي باللحظة، (لكن كان أغلب الكلام عن دراستها والنقاط اللي مش فاهماها)، وافقت على اقتراحها بأن لا أتقدم لخطبتها إلا بعد تخرجها، كما أن هذا ملائم جدا لظرفي، بالرغم أنها اعتبرت الخاتم الفضة هدية عيد ميلادها الأخير بمثابة شبكتها، ( مش فاكر كانت لابسه الخاتم الفترة الأخيرة ولا لأ).

بمرور الوقت بهتت العلاقة وبالتدريج استطاعت أن تقول لي ما لا أتوقعه يوما في نهاية مكالمة هاتفية.

 - أنت أول حب في حياتي وهافضل أفتكرك طول عمري ولكن الجواز قسمه ونصيب.

في ذاك اليوم، حدثت مشكلة بالعمل، تطاول عليّ صاحب العمل، لا شعوريًا لكمته عدة لكمات متتالية، طرحته أرضًا، وأنقذوه من يدي حيا على آخر لحظة، تم اتهامي بسرقه مبلغ من المال بالإضافة لتهمة التعدي.

كما أن على أن أدفع ثمن إيجار الشقة التي حصلت على عقدها مؤخرا  بقيمة إيجارية أكثر من نصف راتبي.

(مش هجيب سيرة أبويا اللى اتوفى وسابني أنا وأمي مديونين لطوب الأرض، كفاية حكاية الزفتة اللي ياما قعدنا هنا على الكراسي دى).. (يا مسهل، فيه واحد جاي)، أنا اللي هقعد على الشمال لو سمحت، بس أنا اللي قاعد الأول.

لم أستطيع أن أقنع هذا العنيد أن يجلس على اليمين ليكون مرشدي، ربما عبوس وجهه وتجهمه سهل تنازلي عن المقعد، ربما شيء آخر، رجل ستيني، ملابسه قديمة لكنها مهندمة، قفل أزرار الجاكت بالكامل، ضامًا كتفيه يفرك يديه بين فخذيه للتدفئة وهو يجلس ممتنا لي.

بدأت في ثني الورقة التي كتبتها، نظرت إليه باهتمام قد يكون فعلًا أكثر احتياجا مني إلى هذا اليسار قد تكون مشكلتي تافهة بالنسبة لما قد يحمله صدر هذا العجوز.

- اتفضل سامعك.

(إيه اتفضل سامعك بحدة دي، مفيش رد أرقى شوية)، ابتسمت لتخفيف ردي الجاف ولمساعدته في ما قدم لأجله، ظل يتكلم وانا أهز رأسي كالمتابع باهتمام كي أتقن دور جالس اليمين، ذهني شاردا، استطاعت فقط بعض كلماته الفرادى والمتناثرة الوصول إلي أذني.

اتجوزت، قصة حب، جامعة ولادي، مدرسة، مستشفى، مراتي، سوق، شغل، معاش، اتخرجت، وش جواز، شيماء، معيدة، طلب ايدها، فلوس.

تحولت الورقة التي كتبتها بعد عدة حركات لا شعورية إلى مركب ورقي صغير، تذكرت أيام الطفولة، كما تذكرت الرسائل التي كانت تتركها لي شيماء حين يتعذر علي المجيء على هذه الكراسي، (كأنه مدرج جامعة مش لقاء حبيبة).

دار أمامي شريط حياة أبي ومعاناته، لحظة مات أبي فقيراً في مستشفى حكومي، وتركني وأمي نقتاد من المعاش، الله يرحمه، كان يبذل كل ما في وسعه ليجعلني أميرًا، عندما طلبت منه دراجة كبقية أولاد الجيران أشترى لي دراجة مستعملة، لكنها كانت أقوى وأجمل من دراجاتهم، كما كانت أمي لديها قدرة مذهلة في شراء الملابس المستعملة وتحويلها إلى ملابس جديدة، أتباهى بها وسط زملائي، أين ذهب كل هذا، قبض الريح، بخار، الآن في خبر كان،( العجلة لسه في المنور، المهم هي فين شيماء دلوقتي آه).. آه، رحمتك ولطفك يا الله.

   استحسن جليسي ردي، اغرورقت عيناه بدموع هاربة، تحشرج صوته في جملة سمعتها جيداً قبل أن ينفجر في البكاء، مش عارف أعمل إيه؟

 وقفت أمامه، ربتت على كتفه، اتكئ على يدى للوقوف، لم أبال بسقوط المركب الورقية، جرفها ماء المطر تجاه المصرف، ضمة أبوية قوية غمرتني، عناق طال لحظة، دقات قلب ونحيب تسلل إلى صدري، لم أعد أفرق دقات قلب من؟ ونحيب من؟ لم أعد أستطيع أن أفرق من يعانق من، بللت كتفه وكتفي دموع مشتركة وخرج صوت مضاعف في نفس واحد.. شكرًا.

Dr.Randa
Egypt Air