الجمعة 17 مايو 2024

الصحافة الورقية المفترى عليها

مقالات16-12-2021 | 23:13

لا شك أن مصر تملك كنزًا وثروة عظيمة في مجال الصحافة الورقية، وفى القلب منها الصحافة القومية التي أسست الصحافة العربية، وصاغت ملامح الإعلام في المنطقة.. وتعد ركيزة الإعلام المصري، لما تحويه من مخزون استراتيجي ذهبي هو قوام كل وسائل الإعلام المصرية على الإطلاق.

محاولات التقليل من دور وشأن وأهمية الصحافة الورقية خطر كبير وداهم.. وله آثاره السلبية على عملية الوعي والتنوير والمعرفة، وأيضاً الجدوى الاقتصادية الهائلة التي لا تقارن بها وسائل الإعلام الجديد أو الإلكتروني، التي لا يتعدى نصيبها من الإعلانات 2٪ من حجم إعلانات الصحف الورقية.. كما أنها وثيقة تاريخية معمقة تحظى بالتحليل والرؤى والأفكار الخلاقة.. وتعج بالكوادر والرموز والكتاب المرموقين، الذين هم الاحتياطي الاستراتيجي الذهبي للإعلام المصري الذي لا يستطيع الاستغناء عن خبرات الصحافة القومية.

الصحافة الورقية المفترى عليها

امتلاك القدرة على بناء الوعي لا يقل أهمية عن القدرات الدفاعية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ويأتي الإعلام بمختلف وسائله، السلاح الأكثر جدوى في تشكيل وبناء عملية الوعي الحقيقي، والفهم الصحيح.. ومن هنا يحتاج الإعلام اهتماماً كبيراً ورؤى مختلفة، وتكاتفاً وتعاوناً وتنسيقاً بين جميع الوسائل الإعلامية لتكمل بعضها البعض.. والاستفادة من قدرات وإمكانات وانتشار الإعلام الحديث والجديد، دون التفريط أو التهوين من قدر الإعلام التقليدي من تليفزيون وصحافة ورقية لأنه يتمتع بقدر كبير من الوقار والثقة والمصداقية والاحترافية، ويرسخ الجانب الوثائقي الذي يضاف لتاريخ الدول والأمم، ويكون مرجعية تاريخية لكل الأجيال القادمة.

لن أتحدث عن وسائل «الإعلام التقليدي» وسوف أقتصر حديثي على الصحافة الورقية، وفى القلب منها الصحافة الوطنية القومية، التي تعد قلب وعقل هذه المهنة، بل هي الطاقة والمخزون الاستراتيجي لكل وسائل الإعلام المصري، سواء في المضامين والمحتوى والطريقة وآليات وسُبُل المواجهة، وأيضاً الكوادر والرموز والقامات الصحفية التي تُعد هي المخزون والرصيد الذهبي.

الغريب أن الصحافة الورقية تتعرض أحياناً لمحاولة اغتيال من بعض الأقلام المحسوبة عليها للأسف.. ويبالغ البعض في مقارنتها بوسائل الإعلام الجديد والحديث في ظل التطور التكنولوجي الهائل الذي يفاخر البعض بالسوشيال ميديا، ويتناسون أنها أحياناً كثيرة ساحة للفوضى الإعلامية، تفتقد المهنية ولا يُعوَّل عليها في المصداقية.. ولا تستند لأي ميثاق شرف.. ولا تُدار بمهنية واحترافية.. وهي منابر تُدار لحساب الغير، ويُراد من خلالها في أحيان كثيرة التشويه والتشكيك، وبث الشائعات والحملات المشبوهة.. ومحاولات النيل من الحياة الخاصة وانتهاك الأعراض.. واستعراض للإساءات والبذاءات والانحلال الأخلاقي، وتقديم صور صادمة لا تُراعى أي معايير إنسانية أو أخلاقية، ولا تُقدِّر ما هو مسموح وممنوع لمختلف الأجيال، خاصة في مجال الجريمة.. وهي أيضاً وسائل متاحة للجميع للمرضى والفوضويين، وأصحاب الفكر المنحرف، ولعل الخلايا الإلكترونية الإخوانية خير دليل على ذلك.. إنها ساحة لا تحكمها أي قواعد أو معايير إعلامية أو أخلاقية، وبالتالي لا يمكن أن نُعوِّل عليها في بناء وعى حقيقي وأخلاقي بمصداقية عالية، ولا يمكن أن نأخذ منها وثيقة وطنية أو تاريخية.

أقول لمن يحاولون التقليل من الصحافة الورقية في ظل التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصال والإعلام الجديد: جربوا نشر خبر بسيط أو صغير على نصف عمود، أو مقال رأى أو أي موضوع صحفي في جريدة قومية لترى مدى التأثير المدوي أو الجدل أو الردود، أو حتى السب والقذف أحياناً على وسائل السوشيال ميديا.
لا ننكر أن الصحافة الورقية تأثرت بسبب وسائل الإعلام الحديث والجديد والتطور المذهل في وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة.. لكن الصحافة الورقية لها خصوصيتها ومكانتها وقيمتها وقدراتها وكوادرها.. وهي تمثل السند الحقيقي للوطن في بناء الوعي الحقيقي والمتنوع في كل المجالات والموضوعات والقضايا وحلقة التواصل الوقورة والمهنية والصادقة بين الدولة والشعب.. وهي أهم منابر التنوير والتثقيف والتعرف على الأبعاد المختلفة للأخبار والقضايا من خلال التحليل وطرح الرؤى والأفكار بطريقة ممنهجة ومنظمة وعلمية ومهنية، وليست بفوضى وعن جهل وسطحية وتقاذف على غرار ما يحدث في السوشيال ميديا.

إن المقالات الموجودة لكبار الكُتَّاب ورموز العمل والكتابة الصحفية، هي ثروة عظيمة لا تقدر بمال، خاصة أنها تطرح الرؤى والحلول، وترسِّخ التثقيف والمعرفة الجادة، وليست الثقافة الاستهلاكية التي تغذى التدني والابتذال وحروب الأفكار الخبيثة، ومحاولات احتلال وغزو العقول، لتؤدي في النهاية إلى ثقافات الانحلال والتدمير والإرهاب، وإفقاد المجتمعات الثقة في نفسها.

الغريب أن من يتهافتون على الكتابة في الصحف الورقية والقومية تحديداً هُم مَن يطعنونها بخناجر التقليل من شأنها.. ولعل مقالاتهم تشهد باهتمامهم وحرصهم بالتواجد عبر صفحاتها وبدلاً من أن تتفتق أذهانهم وخبراتهم في البحث عن تعظيم دور الصحافة الورقية، وحل مشاكلها، ورفع درجة منافستها، راحوا يقللون من دورها دون طرح رؤية للتطوير والتحديث والارتقاء بهذا الدور أو البحث عن علاقة تكاملية بين القديم والجديد أو تكاملية بين الصحافة الورقية والإلكترونية والسوشيال ميديا، والمنابر الجديدة لتكون هناك منظومة إعلامية وطنية تستفيد منها الدولة في تحقيق أهم أهدافها لبناء وعى حقيقي يمثل أهم قدراتها الدفاعية فى ظل سموم الإعلام الحديث والجديد، التي تبث الأفكار الضالة والأكاذيب والشائعات والتشكيك وحملات التشويه وبث الفتنة.

لم يكلف المهاجمون للصحافة الورقية أنفسهم بالبحث عن رؤية جديدة تتميز بها الصحافة الورقية من خلال إكسابها خصوصية وتفرُّداً، بحيث يجد فيها القارئ أو المواطن أو المتابع ما لا يجده في وسيلة إعلامية أخري، والأفكار والرؤى كثيرة.

رومانسية الاستسلام لتداعيات التطور في مجال الإعلام على حساب الصحافة الورقية هي نوع من الضعف المهني والتجمد والانغلاق الفكري وعدم امتلاك القدرة على التطور ومحاولة سيئة لاغتيال إحدى أهم أدوات ووسائل الوطن في بناء وعى حقيقي والدفاع عن حق الشعب في البناء والتنمية والتقدم والتصدي بجرأة وشجاعة ومهنية واحترافية لكل محاولات الهدم والانقسام والإحباط من خلال حملات الأكاذيب والشائعات.

مَن يعتقدون أن الصحافة الورقية أو القومية فقدت دورها عليهم أن يراجعوا أنفسهم وينظروا إلى الآتي:

أولاً: إن انتشار الصحافة الورقية ليس فقط عند باعة الصحف، وأرقام التوزيع، بل هي مغنم لكل الباحثين عن الحقيقة والثقافة والعمق والمصداقية.. وهي موجودة إلكترونياً على السوشيال ميديا، أو موضوعاتها ومقالاتها، مأخوذ منها على المواقع الإلكترونية، وهي مصدر إلهام للمسئول بما تطرحه من رؤى وأفكار عميقة وواقعية قابلة للتطبيق.. وهذا الانتشار الورقي المادي ليس مقروناً في كافة الأحوال والظروف بأرقام التوزيع، التي لا تعبر بأي حال من الأحوال عن أهميتها.. فالنسخة الواحدة يتم تداولها في القرى والنجوع، أو عند الباعة بمقابل يحصل عليه البائع، وفى دواوين الحكومة والموظفين، والقطاع الخاص، وتؤخذ منها الأفكار والقضايا لتتم مناقشتها في أهم البرامج التليفزيونية، كما أن أبناء الصحافة القومية هم عماد الفضائيات والتليفزيونات، سواء رؤساء تحرير للقنوات أو البرامج، أو مقدمي برامج ومعدين وأصحاب رؤى وأفكار لتطوير العمل الإذاعي والتليفزيوني، وأيضاً رؤساء تحرير وصحفيين في المواقع الإلكترونية.

أظن أنه لا مجال للنقاش في أن الصحافة القومية هي ثروة قومية وطنية بما تزخر به من تاريخ عريق.. وكوادر ورموز وكُتَّاب وصحفيين على درجة عالية من الاحترافية والمهنية هي أساس ونواة أي عمل إعلامي وطني ولا أنسى أن توهج التليفزيون المصري عندما كان صحفيو الصحف القومية يقومون بمهام الإعداد أو رؤساء تحرير لأهم البرامج التي ارتبطت بها الجماهير أو المشاهدون.

الغريب أن مَن يهاجمون الصحافة الورقية والقومية يفعلون ذلك في مقالات على صفحاتها.. ويعلمون أيضاً أن الأجيال الجديدة من الإعلام الحديث لا يمكن أن تعول عليها في مجال قيادة الإعلام، وأصبحوا أقرب للعمل الإعلامي الاستهلاكي المسطح، وتناسى هؤلاء الكنوز الموجودة والثروات الطائلة الموجودة في مؤسسات الصحافة الورقية.. أو دورها في بناء الوعي الحقيقي وليس المزيف أو أطروحاتها ورؤاها التي يستفيد منها الجميع.

الحديث عن نعوش الصحافة الورقية هو إفلاس حقيقي.. وتجمد في الرؤى وعدم القدرة على إحداث الفارق والإضافة والخصوصية، وقراءة المشهد الإعلامي.. وتهاون وتفريط غير مبرر في كنوز وثروات هائلة.. فالصحافة الورقية لا تتوقف عند فشل جريدة أجنبية وإلغاء طباعتها.. فهناك نماذج في دول أخرى لعلها أكثر الدول تقدماً مثل اليابان، وعلى حد علمي توزع 9 ملايين نسخة، وتدعم فرنسا صحافتها الورقية بما يقرب من مليار يورو سنوياً.. هذا الإيمان بقيمة الصحافة الورقية يجسد دورها ومكانتها في مساندة الدولة، وأنها صمام الأمان ضد محاولات التزييف والتدليس والتشويه والأكاذيب.

من المهم أن نرسخ في مجتمعنا قيمة القراءة، فخلال زيارة بعض الدول الأوروبية وأمريكا أجد معظم ركاب المترو مثلاً في أيديهم كتباً يطالعونها.. لابد أن نعيد أبناءنا وشبابنا للقراءة.. هذه هي المشكلة، وليست في الصحافة الورقية، وطرح رؤى للارتقاء بالذوق العام.. والعودة إلى العمق وليس السطحية التي انتشرت في العقود الماضية، فقد مالت هذه الأجيال إلى الاستسهال والبحث عن المعلومات السريعة دون التدقيق في المصادر ومصداقيتها.

بدلاً من أن تلعن ظلام الصحف الورقية.. عليك أن تضيء رؤى جديدة لتعظيم دورها، وإعادة تأثيرها إذا كنت ترى تراجعها، أو اقتراب دفنها، وهذا لن يحدث على الإطلاق، فمازالت الصحف الورقية تحظى باهتمام المجتمع المصري.. وعلينا جميعاً أن نجتهد ونفتق الأذهان، ونطلق العنان للأفكار لإضافة مضامين جديدة للصحافة الورقية تحظى باهتمام القارئ من مختلف الأجيال والفئات العمرية.. علينا أن نعيد للمجتمع ككل قيمة القراءة والثقافة والرقى في الذوق العام.. علينا أن نبعد الأجيال القادمة عن الثقافة الاستهلاكية ومصادر التفاهة والسطحية، ونرسخ فيهم العمق والعودة إلى التعرف على مختلف الرؤى المعمقة.

وأخص بالصحف القومية التي تعد مثل الأهرامات في قيمتها «الحضارية» ولعل وطبقاً للتاريخ فإن الأهرام والأخبار والجمهورية، وباقي المؤسسات القومية العريقة هي كنوز مصرية علَّمت المنطقة والأمة العربية وأسست صحافتها وتليفزيوناتها.. وشكلت ملامح إعلامها.

من المهم ومن خلال الربط بين تطوير الصحف الورقية ومستوى الخريج من كليات الإعلام.. أن تحظى هذه الكليات بالتطوير والتعميق، والجمع بين الجانب النظري والأكاديمي، وأيضاً العملي والتدريبي ومعايشة ظروف وأبعاد المجال الصحفي والإعلامي مهم للاختيار الجيد للطلاب الملتحقين بكليات الإعلام.. بدلاً من الفوضى في هذا المجال التي لا تفرز خريجاً قادراً على إثراء العمل الإعلامي أو الصحفي، خريجين يفتقدون أقل المعايير الثقافية والمعلوماتية والمهنية.. بعد أن تحولت معظم هذه الكليات إلى سبوبة أو بيزنس على حساب هذا المجال الذي يعد من أقوى أسلحة الوطن في مواجهة حملات التغييب والتزييف وترسيخ جدار الثقة مع المواطن.. من خلال إعلام قادر على القتال على الجبهة الإعلامية الوطنية، لتحقيق النصر والتحصين والحماية للعقول المصرية من مخاطر حروب الإعلام الجديد.

تحيا مصر