الأربعاء 15 مايو 2024

في مهرجان علي بن عياد بتونس رفض لموت المؤلف

21-6-2017 | 10:56

د. عمرو دوارة - كاتب ومخرج مصري

"حمام الأنف" منطقة ساحلية ساحرة في تونس الخضراء، ولا تبعد عن العاصمة كثيرا ومع ذلك فهي تتميز وككل المدن الساحلية بروعة مناظرها وجمال مناخها ونقاء هوائها، وقد ارتبط اسمها مسرحيا في كل عام بتنظيم "مهرجان علي بن عياد"، الذي تمتد أنشطته بين شهري أبريل ومايو، ويحمل اسم فنان مسرحي تونسي متميز، ويعد من المهرجانات المسرحية العريقة بالوطن العربي، وذلك ليس فقط لمرور أكثر من ثلاثين عاما على تأسيسه ولكن لنجاحه أيضا خلال مسيرته المنتظمة في تحقيق مكانة متميزة بين المهرجانات المسرحية الوطنية والإقليمية، كنتيجة لقوة تأثيره في الحركة المسرحية التونسية.

   علي بن عياد (15 يناير 1930 ـ 12 ديسمبر 1972) ممثل ومخرج مبدع، علامة مضيئة في تاريخ المسرح التونسي وظل اسمه مرتبطا في الذاكرة الجماعية بهذا الفن. نال دبلوم التمثيل من "الكونسرفتوار" فى باريس، وحصل عام 1955 على منحة من بلدية تونس للدراسة بالمعهد العالى للتمثيل بالقاهرة، ولكنه عاد إلى باريس عام 1956 للتدريب على فن الإخراج المسرحي والإضاءة المسرحية، ثم انضم بعد ذلك بسنتين كممثل إلى فرقة "بلدية تونس" والتي عمل فيها أيضا مساعدا لمديرها، وفي عام 1960 سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فأتيحت له الفرصة للمشاركة بالتمثيل فى أفلام أمريكية وفرنسية وإيطالية.

   وفرقة "بلدية تونس" هي الفرقة الأم التي احتضنت المشاركات المسرحية لعلي بن عياد ممثلا ومخرجا وإداريا، حيث تم تكليفه عام 1963 بإدارة الفرقة، التي أخرج لها عددا من المسرحيات بالفرنسية والعربية، وبفضله عرفت الفرقة عصرها الذهبي وتألقت على المستويين الإقليمي والعالمي. وخلال فترة نشاطه بين عامي 1958 و1972 قام بالإخراج أو المشاركة بالتمثيل في (27) سبعة وعشرين عرضا مسرحيا من بينها: أوديب، هاملت، عطيل، كاليجولا، مدرسة النساء، البخيل، مراد الثالث، يرما، الماريشال وثورة صاحب الحمار، وإليه يعود الفضل في اكتشاف وصقل موهبة عدد كبير من المسرحيين التونسيين، كما يعود إليه الفضل في استقطاب بعض كبار الأدباء التونسيين للكتابة للمسرح لاقتناعه بأهمية "تونسة "النص المسرحي، وقد نال عدة جوائز كمخرج مسرحي، كما أنه بخلاف كل ما سبق شارك كممثل سينمائى ببطولة أفلام تونسية وبالفيلم المصري "الحب الضائع" إخراج هنري بركات والذي شارك بطولته مع سعاد حسني ورشدي أباظة وزبيدة ثروت.

   وكان فنانا وطنيا له مواقف وطنية تحسب له، في الدفاع عن القومية العربية، وقد برز دوره من خلال مجموعة برامج إذاعية أعدها أثناء حرب "بنزرت"، وكذلك من خلال انضمامه إلى مجموعة المتطوعين التونسيين للدفاع عن فلسطين عام 1948، غير أنه لم يستطع أن يتجاوز الحدود الجنوبية لتونس، ويحسب له أنه قد ظل وفيا لموقفه القومي حتى آخر أعماله، حيث سافر إلى باريس في أوائل عام 1972 - قبل وفاته بعدة أسابيع - ليضع اللمسات الأخيرة لمسرحية عن القضية الفلسطينية.

   ويسجل تاريخ المسرح التونسي له تميزه في التأسيس لمسرح تونسي متطور وحرفي، ونجاحه في تقديم أعمال جادة باللغة العربية الفصحى وعلى درجة عالية من الاحتراف، حتى أن بعضها قد عرض في عدد كبير من المسارح العالمية، كما قدم مسرحا شعبيا ضاحكا مازال صداه يتردد في الذاكرة المسرحية الوطنية، كما نجح في إعطاء مكانة متميزة للمرأة في مسرحه من حيث نوعية النصوص التي تطرح قضاياها مثل "مدرسة النساء" و"مجنون ليلى".

الدورة الثلاثون للمهرجان

   تأسس هذا المهرجان بعد وفاة علي بن عياد اعترافا بفضله وإحياء لذكراه، وقد توالت دوراته بانتظام وتباينت مستوياتها، وشهد تألقا وتميزا في الدورتين الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، حيث اتسمت كل منهما بالصبغة العربية والدولية. واهتمت الدورة التاسعة والعشرون بالمؤلف المسرحي، بمناسبة ذكرى مرور أربعة قرون (400 عام) على وفاة شكسبير، في حين اتسمت الدورة الثلاثون بالبعد المحلي فقط، باستثناء مشاركة عربية واحدة تمثلت في شرف مشاركتي بكل من الندوتين الرئيسيتين ومشاركة عالمية واحدة تمثلت في مشاركة الفنان الأمريكي ستيفن ريتز بار المتخصص في صناعة الأفلام السينمائية التي تعتمد على شخصيات من العرائس الصغيرة.

   اختير الكاتب الكبير عز الدين مدني رئيسا شرفيا لهذه الدورة، كما تحمل مسئولية رئاستها الفنان المسرحي محسن الأدب، وهو أحد مبدعي جيل الوسط بالمسرح التونسي، ومن المخرجين المسرحيين المتميزين الذين انحازوا لثورة الياسمين، ومن النشطاء بالحركة المسرحية بصفة عامة. وقد استطاع إدارة هذه الدورة بحنكة وحكمة خاصة مع نقص الاعتمادات المالية وضيق الوقت، فسعى جاهدا إلى تحقيق الاستمرارية وتكامل الدورات، واضطر إلى التضحية بالمشاركات العربية والدولية بالمهرجان في سبيل تحقيق التميز الحقيقي في مجال إعادة تنشيط البنية الأساسية والاهتمام بالتدريب والتكوين لشباب ونشء المسرح التونسي.

   تميز هذا المهرجان بأصالته ومنجزه الحقيقي، وربما يفوق في تأثيره ومكتسباته كثيرا من المهرجانات الدولية، حيث يمتد تأثيره الفعلي إلى خارج الأبنية المغلقة والقاعات المسرحية التقليدية، إذ يعنى بالدرجة الأولى بالتوجه للجمهور في كل مكان وخاصة تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، وأيضا جمهور المقاهي ورجل الشارع بالميادين والشواطئ، وربما لم أشهد مثله في تنوع وثراء أنشطته سوى مهرجان "توياما العالمي لمسارح الأطفال" (والذي تتحول فيه مدينة "توياما" اليابانية كلها إلى عرس مسرحي)، ويمكن تصنيف أهم أنشطة الدورة الثلاثين كما يلي:

العروض المسرحية:

1- عروض المسابقة الرئيسة: تضمن المهرجان عشرة عروض على مسرح "المركب الثقافي علي بن عياد"، بخلاف عرضي الافتتاح: "رمال متحركة" إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بمدنيين، وإخراج اليحياوي، وعرض الختام "إذا عصيتم" ثماني مسرحيات داخل المسابقة الرسمية وهي:

"اللهليبة": إنتاج أنس لفنون الركح، ترجمة رضا بوقديدة، إخراج منير العرقي. "أو لا تكون" إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بمدنيين، تأليف بوكثير دومة، وإخراج أنور الشعافي. "انتصاب فوضوي" إنتاج شركة مسرح الغسق بالقيروان، دراماتورجيا وإخراج محمد السايح عويشاوي. ''ريفيزور'' إنتاج شركة أفوتير، وتأليف سهيل العماري، وإخراج مختار الوزير. "زمان الفلاقة" إنتاج شركة بمسرات سعيد بحلق الوادي، تأليف  زهير الرايس، إخراج  محمد الكشو. "الصابرات" إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان، دراماتورج فوزي السنوسي خديجة بكوش وحسام العريبي، وإخراج حمادي الوهايبي. "دوالب" إنتاج شركة مارس، وتأليف يوسف مارس والجليدي العويني، دراماتورجيا وإخراج يوسف مارس. "القراج" إنتاج شركة جوكر للإنتاج  بصفاقس، تأليف البشير بوعلي، وإخراج أمير عيوني.

2- "مسابقة المسرح المدرسي": بخلاف العروض السابقة قدمت عروض أخرى بدار الثقافة المروج، يومي السبت والأحد الموافقين الأول والثاني من أبريل ومنها عروض: بيجماليون"، "يرما"، "الجاحظ"، نصف الحياة"، "ليت زينب مثل مريم"، "نقطة استفهام"، "معنى ع.ن.ف"، "الآن وغدا"، "اليتيم"، "عروس لقاء"، "أحب الحياة"، "القرية السعيدة"، "مسرحية فكاهية"، "جحا المغوار وما صار له مع الحمار"، "كوزات" وذلك للمرحلة الإعدادية، وعروض: "عطيل"، "حلم ليلة صيف"، "لنا عودة"، "شجرة الطموح"، "فانتازيا"، "صراع الحياة"، "بلادي بلاد الخير" وذلك كعروض لمسابقة المعاهد. وبعض العروض كانت موجهة وبصورة علمية لذوي الاحتياجات الخاصة (معهد المكفوفين مدرسة الصم والبكم).

3- مسابقة عروض فرق الهواة: نظم المهرجان مسابقة لعروض فرق الهواة بدار الثقافة المروج (يومي 3 و4 أبريل)، قدمت من خلالها تسعة عروض قصيرة (لا تزيد مدة عرض كل منها على 60 دقيقة)، وهذه العروض هي: "خرطر"، "آنين"، "مازال ثما روميو"، "الجدار"، "الفاجعة"، الخادمتان"، حماة الحمى"، "ثورة المهرج"، "تمويه". هذا وتجدر الإشارة إلى التباين الشديد بين مستوى العروض وإلى التنوع الكبير بالنصوص، حيث تضمنت القائمة نصوصا عالمية وعربية لكبار الكتاب وأخرى لمؤلفين هواة.

4- العروض الموازية: قدمت عروض موازية هي: "الحكواتي"، "رقصة الشمس"، "المهرج"، "أين أنت يا أبي"، "قصة رقم 50"، "كلون شو"، "الرهوط"، "بائعة الكبريت"، "يوبا يوبي"، "علمني أطير"، "نحب نعيش"، "حلمة تونسية".

   ونظرا لكثرة عدد عروض المهرجان يصعب بالطبع محاولة تقديم رؤية نقدية لكل منها أو تقييم مستواياتها الفنية بصفة عامة مع الرصد لأهم الأفكار التي تناولتها، خاصة وأن بعضها قد تم تقديمه باللهجة التونسية الدارجة (العامية) التي يصعب أحيانا التواصل معها، ولكن من واقع الحرص أيضا على تقديم رؤية شاملة للمهرجان يمكنني رصد بعض السمات العامة وهي:

   جرأة تناول بعض القضايا المسكوت عنها، وكسر بعض التابوهات التقليدية، ومن الأمثلة الواضحة لذلك عرض "الصابرات" الذي ناقش قضية اقتحام وغلق بيوت الدعارة بالقوة، وعارض التنكيل بالعاهرات مطالبا بحقوق تلك الفئة المهمشة بالمجتمع. وكذلك عرض "دوالب" الذي تناول العنف بصفة عامة، وكيفية تعامل المتطرفين دينيا مع بعض الظواهر الاجتماعية، في ظل تعاظم سلطة المال وسلطة رجال الدين ورجال الحكم.

   تقديم العروض الشبابية التي تعتمد على التأليف والإبداع الجماعي، والتي لا تزيد مدة تقديمها في المتوسط على خمس وأربعين دقيقة أو ساعة على الأكثر، وتعتمد على البطولة الجماعية ومشاركة عدد محدود من الممثلين يتراوح بين أربعة و ثمانية في أغلب الأحيان.

   الاهتمام الكبير بالسينوغرافيا وخاصة الإضاءة التي تميزت كثيرا بقدرتها على التعبير عن اللحظات الدرامية المختلفة، وتقديم لوحات تشكيلية رائعة وتحقيق رؤى بديعة ساحرة.

   تمكن عدد كبير من الممثلين من جمع مفرداتهم الفنية، وخاصة امتلاكهم للياقة المطلوبة والقدرة على التعبير الجسدي، والتي هي نتاج طبيعي لجدية التدريبات المسرحية واستمرارها.

الندوات الرئيسة:

  تم تنظيم ندوتين رئيستين حرص على حضور كل منهما عدد كبير من المسرحيين الذين يمثلون مختلف الأجيال وعدد كبير من الإعلاميين وعشاق الثقافة والفنون، وكانت تفاصيل كل منهما كما يلي:

   الندوة الأولى عنوانها "الكتابة المسرحية"، وشارك بها كل من الأساتذة: عز الدين مدني، الأكاديمي د. سامي نصري، المخرج حاتم مرعوب والمسرحي المصري د. عمرو دوارة. وقد تناول المشاركون أهمية النص المسرحي، وعلاقة وحدود كل من المؤلف والمخرج خلال مراحل الإبداع والتعاون بالعرض المسرحي، واتفقوا على رفضهم لمقولة "موت المؤلف المسرحي"، كما طالبوا بضرورة ضبط المصطلحات الخاصة بكل من الترجمة والتعريب والاقتباس والتمصير أو التونسة والدراماتورج، وتطرقت الندوة إلى بعض أشكال الكتابة الحديثة ككتابة السيناريو أو الإبداع والتأليف الجماعي أو الارتجال، ومسرحة الأشكال والأعمال الأدبية الأخرى، وقد أوضحوا في النهاية  أهمية وضع الضوابط المنظمة لمثل تلك الاجتهادات الفنية.

  الندوة الثانية عنوانها "حول الإبداع والنقد والتوثيق"، بمشاركة: عز الدين مدني، والمخرجين حمد المزي (تونس) ود. عمرو دوارة (مصر)، والناقدين التونسيين فوزية المزي ومحمد مؤمن و الأكاديمي د. محمد عبازة. وتناول المشاركون خطورة غياب التوثيق المسرحي والمنوط به رصد وتسجيل وتحليل جميع الخبرات والإنجازات السابقة، خاصة وأنه بغيابه لا يمكن تحقيق هدف تواصل الخبرات أو السماح بتراكمها. كما تناولوا العلاقة المستمرة بين الإبداع والنقد والتنظير، وكيفية تأثر وتأثير كل منهما في الآخر. وأوضحت الندوة بصورة محددة أهمية النقد المسرحي بوصفه المرشد لكل من القارئ المشاهد، الذي يساهم في تقديم الإضاءات المختلفة حول المؤلف وإبداعاته السابقة والموضوع الرئيسي للعمل المسرحي وخلفياته التاريخية، وكذلك قيامه بكشف أهم النقاط المضيئة أيضا وإيضاح أهم السلبيات فيه، وبالتالي فهو بذلك يساهم بالتقييم بالنسبة لجميع المشاركين في العمل الفني بهدف ترشيد مسارهم ودفعهم للتجويد.

الورش الفنية:

  نظم المهرجان مجموعة متميزة من الورش الفنية ومن بينها:

1- ورشة "صناعة فيلم بالعرائس" بالمعهد العالي للفن المسرحي، بإشراف الأمريكي ستيفن ريتز بار، وأثمر عن الورشة إنتاج فيلم يربط بين الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي كرمز للمقاومة وبين أسطورة "حنبعل".

2- مجموعة ورش متنوعة لتلاميذ المدارس وطلاب المعاهد ومنها: ورشة الرسم، وورشة الرقص المعاصر.

   وهكذا يتضح مما سبق مدى حرص اللجنة المنظمة على تقديم خدمات فنية ومسرحية متميزة لصالح المجتمع، فنجحت بالفعل في تحقيق أهدافها المنشودة باعتمادها على روح الهواية وخبرات الاحتراف. ولا أملك في النهاية إلا التمني لهذا العرس الثقافي والفني المهم بالاستمرار والازدهار، بالحرص على تنظيمه عربيا وعالميا للانفتاح على تجارب جديدة في كل دورة.

    Dr.Radwa
    Egypt Air