الخميس 23 مايو 2024

العدو العدوان.. والعدائيات

21-6-2017 | 14:32

بقلم – د. جمال عبد الجواد

يحتاج الفكر الاستراتيجي السائد في بلادنا لأن نفكر فيه مرة أخرى. فالفكر الاستراتيجي ليس كالكتب المقدسة نزل بها الوحي في زمن قديم، وما على المتأخرين من البشر سوى الاتباع، أو إعادة التفسير على أقصى تقدير. الفكر الاستراتيجي –كأي فكر بشري- يتغير تبعا لظروف العالم المتغيرة، وقد تغير العالم كثيرا في العقود الثلاثة الأخيرة، منذ انتهت الحرب الباردة، أما إقليم الشرق الأوسط، الذي نحن جزء منه، فقد تغير كليا في السنوات السبع الأخيرة، ومع هذا فإن التفكير الاستراتيجي في بلادنا لم يخضع لعملية إعادة نظر، ومازالت ظروف النشأة تتحكم في الطريقة التي ننظر بها للعالم من حولنا، أو بعبارة أكثر صراحة، فإن تفكيرنا الاستراتيجي مازال أسيرا لمرحلة الحرب الباردة والقطبية الثنائية التي تعلمنا خلالها لأول مرة معنى الاستراتيجية والتفكير الاستراتيجى..

 

وأزعم أن العاصفة التي ضربت الشرق الأوسط والدول العربية فيه منذ عام ٢٠١١ ليست سوى نتيجة لإخفاق النخب السياسية والفكرية في بلاد المنطقة –حاكمة ومحكومة- في تجديد أساليب التفكير السياسي والاستراتيجي بطريقة تتلاءم مع المتغيرات الجارية في العالم والإقليم، فكان ما كان وجرى ما جرى.

سأحاول في هذا المقال اقتراح بعض اتجاهات التجديد الواجب في فكرنا الاستراتيجي من خلال مناقشة ثلاثة مفاهيم رئيسية، وهي العدو والعدوان والعدائيات.العدو هو طرف يتصرف بطريقة ضارة بمصالحنا الحيوية. لقد تجاوزنا الزمن الذي بنينا فيه تفكيرنا الاستراتيجي على فرضية وجود أعداء دائمين بسبب جنسهم أو عقيدتهم. العدو يكتسب هذه الصفة بسبب تورطه في سلوكيات ضارة بأمننا القومي ومصالحنا الحيوية، وهو عندما يتصرف بهذه الطريقة فإنه يجبرنا على التصرف معه بما تقتضيه صفته كعدو. العدو ليس صفة لصيقة بدول معينة، ولكنه صفة مرتبطة بسلوك الدول، وبالتالي فإن العدو يفقد صفته هذه، أي أنه يكف عن أن يكون عدوا، عندما يكف عن التصرف بطريقة تضر بمصالحنا الحيوية.

في معنى العدو

العدو كصفة سلوكية هو مبدأ قديم يرجع إلى ما قبل زمن الحرب الباردة، ففي عالم كان فيه توازن القوى هو المبدأ والآلية الثابتة في العلاقات بين الدول، وكان تقلب الدول في مواقفها وتحالفاتها طبقا لتغيرات ميزان القوة هو القاعدة، فإن كل الدول تصرفت وفقا لنفس المبدأ الذي لخصه تشرشل عندما قال بأنه لا يوجد أعداء دائمون أو حلفاء دائمون، فقط توجد مصالح دائمة.

لقد تم إخفاء هذا المبدأ والتمويه عليه في عالم القطبية الثنائية والحرب الباردة، حينما كانت التحالفات ثابتة وطويلة الأمد، وعندما كان الصراع بين المعسكرين يتم التعبير عنه باستخدام مصطلحات إيديولوجية وأخلاقية أخفت وراءها الصراع الشرس بين المعسكرين من أجل السيطرة، وبحيث بدا الأمر وكأن المعسكرين المتنافسين هما من حقائق السياسة غير القابلة للتغيير. في عالم الحرب الباردة الفريد تعلمت مصر، وتعلمت الدول العربية لأول مرة معنى السياسة الدولية والعلاقات بين الدول، فبدا الأمر للقادمين الجدد لعالم العلاقات بين الدول وكأن ما هو فريد واستثنائي بسبب ظروف القطبية الثنائية والتسلح النووي والصراع الإيديولوجي هو الأمر الطبيعي في علاقات الدول، الأمر الذي ترك أثرا قويا على التفكير الاستراتيجي في بلادنا. وقد تعزز هذا الأثر بسبب الصراع العربي-الإسرائيلي الممتد، وهو الصراع الذي توجد له جذور وأسباب قوية في العقائد السياسية والدينية. لقد تم إدراك الصراع العربي-الإٍسرائيلي لسنوات طويلة باعتباره صراع وجود لا صراع حدود، ولأن هذا الصراع كان لعقود هو الصراع المركزي في الشرق الأوسط، فإن مقولة تشرشل حول المصالح الدائمة، والأعداء والحلفاء المتغيرين لم يكن لها صدى مهم في التفكير الاستراتيجي العربي. حتى أنه رغم انتهاء الحرب الباردة منذ زمن، فإن العرب تأخروا في التكيف مع هذه الحقيقة، وبصفة عامة فإن الدول العربية مازالت تحتفظ بنفس التحالفات التي اعتمدت عليها في زمن الحرب الباردة.

من العدوان إلى العدائيات

لعقود، وربما قرون طويلة، كان العدو enemy هو من يقوم بالعدوان aggression. وكان العدوان عملا مسلحا يستوجب اللجوء للعنف المسلح من أجل مواجهته، وهو الأمر الذي تغير بدرجة كبيرة جدا في عالم ما بعد الحرب الباردة الذي نعيش فيه. فالصلة بين العدو من ناحية، والعدوان المسلح من ناحية أخرى لم تعد ميكانيكية وبنفس الوضوح الذي كانت عليه في مراحل سابقة. لقد تم تمييع العلاقة بين العدو والعدوان المسلح لأسباب يتعلق بعضها بالقيود الصارمة التي باتت مفروضة في عالم اليوم لتقييد استخدام القوة المسلحة في العلاقات بين الدول. وأنا هنا لا أتحدث عن قيود قانونية، ولكنني أتحدث عن أثر التكلفة الباهظة للحرب الحديثة في دفع الدول لخوض صراعاتها باستخدام أساليب أخرى غير مباشرة وغير عنيفة.

في نفس الوقت، فإن ثورة الاتصالات والمعلومات، والنظام الدولي للعولمة قد أتاحوا أساليب جديدة أقل كلفة لشن الصراعات بين الدول. لقد أصبحت حدود الدولة أقل إحكاما، وظهر فيها من الثقوب ما يسمح بتسرب تأثيرات قادمة من خارج الدولة، وبينما تولد جانب كبير من هذه التأثيرات العابرة للحدود من ظواهر تلقائية غير موجهة، فإن الأعداء لجأوا لتوظيف التأثيرات العابرة للحدود لإلحاق أضرار كان تحقيقها في الماضي يستوجب اللجوء لعدوان مسلح. فإسقاط نظام الحكم لم يعد يحتاج لغزو عسكري، فأساليب الدعاية والتجنيد وشراء الأنصار عبر الحدود يمكنها أن تحقق نفس الغرض دون اللجوء للحرب.

المفارقة في حالة الشرق الأوسط وفي القلب منه العالم العربي، هو أن التوظيف الفعال للتأثيرات العابرة للحدود من أجل تحقيق أهداف سياسية يحتاج إلى صلة ورابطة إيديولوجية وأخلاقية بين المتدخل الخارجي والداخل الوطني. بعبارة أخرى، فإن الروابط اللغوية والثقافية والدينية تتيح للمتدخل الخارجي فرصة أكبر للاختراق. فالتصرفات العدائية التي تشنها إيران ضد عدد من دول المنطقة عبر اختراق نسيجها الاجتماعي، وعبر التلاعب بالهويات المذهبية والطائفية كانت لها آثار مدمرة لا تقل عن استخدام القوة المسلحة لتفتيت الأوطان وإخضاع الحكومات. وقد سعت دولة قطر لتطبيق أساليب مماثلة لإخضاع الدول دون استخدام القوة المسلحة. لقد أصبح من الصعب على عدو قوي عسكريا، استخدام قدراته العسكرية لشن عدوان يحقق من خلاله أهدافا سياسية، لكنه أصبح من السهل على عدو له دين أو لغة أو ثقافة مشابهة أن يقوض الأمن القومي للدولة دون شن عدوان مسلح. لقد تراجعت الحرب كطريقة لإدارة العلاقات بين الدول بشدة منذ انتهاء الحرب الباردة، ومع هذا فإن الصراعات بين الدول لم تنته. فالتكلفة الباهظة للحرب الحديثة جعلت الدول تتجنب اللجوء للعدوان المسلح، ولكن ديناميات العولمة أتاحت للدول الفرصة لمواصلة صراعاتها عبر تصرفات عدائية، أو عدائياتhostilities، بدلا من الصورة النمطية للحرب المسلحة التي اعتاد الأعداء شنها.

العدو لم يختف، لكنه أصبح يتبنى طريقة غير مباشرة وغير مسلحة في الاقتراب من أهدافه. «العدو» اختيار. فبعض الدول تختار التصرف بطريقة عدوانية تهدد المصالح الحيوية لدول أخرى، وهو ما تبينه الحالة الإيرانية التي يرتبط فيها العداء بهوية وإيديولوجيا نظام الحكم الشيعي الثوري في طهران، وهو نفس ما تبينه الحالة القطرية بدرجة أكثر وضوحا، حيث اختارت النخبة الحاكمة في دولة قطر التصرف بطريقة عدائية ضد الجيران دون وجود مسوغ أو سبب قوي يبرر ذلك.