الإثنين 6 مايو 2024

الكمامة ليست نقابا.. لا تشمتوا

مقالات26-12-2021 | 11:48

كل من يعرفني عن قرب يعلم جيداً معاناتي على مدار عمري من حساسيتي تجاه روائح السجائر الملعونة وكل الروائح النفاذة، والتي زادت مع كل أسف بعد إصابتي بالوباء اللعين، والذي أثر بنسبة على قدرتي على التنفس بشكل طبيعي يسمح للأوكسجين بالوصول للمخ والرئة بشكل كامل، وهي الأعراض الجانبية التي سمعتها من بعض المصابين من قبلي أنها تظل ملازمة لمتعافي الكورونا لفترة.

على كل حال ولأن لعنة الوباء أفقدتني أعز الناس لقلبي، فقد أصبحت حساسيتي النفسية والعضوية مفرطة تجاه الأشياء والتفاصيل التي فرضها علينا زمن الكورونا وعلى رأسها الكمامة اللعينة، وبرغم كامل علمي ويقيني بأنها حائط الصد الأول في الحماية من الإصابة، إلا أنني وصلت لتلك المرحلة الصعبة من إحساسي الشخصي بالكراهية تجاهها، لأنه أصبح من الصعوبة بمكان أن أرتديها لفترات طويلة خلال ساعات العمل أو قضاء المصالح، لأنه يتسبب في سوء حالة حساسية الصدر من ناحية، ولأنه أصبح العلامة والسمة المميزة لعصر وباء الكوفيد 19 على مستوى العالم التي تحاوط كل تفاصيل حياتنا ونجذع لها.

والغريب في الأمر، أنني مازلت أتذكر بعض المتربصين الجاحدين من أشباه البشر ممن قاموا وقمن بمصمصة الشفاه إبان الفوضى الأولى التي استتبعت تفشي الوباء على مستوى العالم، وبعد اضطرار الحكومات لفرض ارتداء الكمامات بقوة القانون وتطبيق غرامات على غير مرتديها، فإن البعض من داعمي فكرة "النقاب" تلك العادة القبلية التي هجرت أراضيها الأصلية واستوطنت أرضي، قد قاموا بالتعبير عن كل أنواع الشماتة في البشرية ككل، باعتبار أن الكمامة التي أخفت نصف معالم الوجه هي نفسها بمثابة النقاب الذي ترتديه السيدة المنتقبة، وهو ما يخفي بالتبعية معظم ملامح هوية الأشخاص ويسبب تهديداً مباشراً لسلامة كل الأبعاد الأمنية للمجتمعات.

أليس معلوماً أن الوجوه هي عنوان أصحابها، وأنها انعكاس لهويتهم، وهي الـ DNA المُمَيِّز لكل شخصية على حدة، وهي أيضاً مرآة المشاعر دونما الحاجة لنطق كلمات، وهي منبع الفعل ورد الفعل، فإذا كانت الكمامة هي السمة المميزة لزمن الكورونا، فدعونا نؤكد أن الأصل في المحيا هو "دونها" لا بها، لذا فوجودها هو الأمر الطارئ الشاذ المعتل، الأصل فيه هو انتفاؤها من الوجود، إلا أنها تظل مع التباعد الاجتماعي -حتى حينه- أمراً ضرورياً "نلتزم به" لحدثاً استثنائياً "نأمل رحيله".

فإنني كلما تذكرت معاناة أعز الأشخاص لقلبي قبيل رحيله، ومعاناتي بسبب ذلك الشيء الذي أصبح شرطاً لمرورنا للعالم من خلف باب الشقة وضمان سلامة عودتنا، تعجبت في ذات الوقت من تلك النفوس القاتمة التي لا تستشعر إلا أنانيتها المطلقة في فرض معايير الأمر الواقع المظلم والمؤلم على المجتمع، وإلا أظهرت كل مشاعر الشماتة والفرحة في البشرية جمعاء، في نفس الوقت الذي ذابت فيه كل الهويات والجنسيات والأعراق، واتحدت فيه فقط مشاعر الإنسانية على إطلاقها، متجردة من أي أهواء أو نزعات.

ألم يعد ذلك الوباء كافياً وكفيلاً بأن يذيب تلك العقول المتحجرة، ألم تعد تبعات وتداعيات انتشاره كافية لأن تئن القلوب بدلأ من أن تشمت، وأن تتشابك الأرواح بدلاً من أن تتنافر، ألم يعد سقوط كل تلك الأرواح التي تقدر بالملايين كافياً لانقضاء تلك الشماتة واستبدالها بلمسة تعاطف!!

على أية حال، فإن صفة الرحمة لِعِظَمِها لا تليق إلا باللينة قلوبهم، والتوعد الرباني أقسم أن ويل للقاسية قلوبهم، ورب الكون واهب الوباء قادر على استجابة الدعاء ورفع البلاء، وكل مصيبة إلى زوال، فالرحمن الرحيم أرحم بعباده من خلقه، وإلى حين ذلك.. لا عزاء للشماتين في البشرية، ولا حتى شبهة تعاطف.

 

Dr.Randa
Egypt Air