محمود القاعود
الحبُّ - أعزّك الله - أولّهُ هزلٌ وآخرُهُ جد، دقّت معانيه لجلالها عن أن تُوصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وهو ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل". هكذا وصف الإمام ابن حزم الحُب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس منذ بدء الخليقة.
ولم يدهشني أن يكتب الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (1929 ـ 2013) رواية "ممُو زين" التي تحكي قصة حُب نقلا عن التراث الكردي، وتحديدا الملحمة الشعرية التي صاغها الشاعر "أحمد الخاني". وثمة اتجاه عام في العقل الجمعي يعتبر حديث رجل الدين عن الحُب أو المشاعر. جريمة لا تُغتفر! رغم أن الجميع يبحثون عن الحُب. وفي هذا الإطار قدم البوطي روايته التي تقوم على شيء من الميثولوجيا، فقدم رواية تراجيدية تنتصر للحُب وتحمل على المجتمع الذي يُفرّق بين المحبين لاعتبارات سخيفة.
الرواية الوحيدة للبوطي، تقع في 191 صفحة من القطع المتوسط، وتقدم فكرة غرائبية، وفقا للأسطورة الكردية التى تعود لعام 1393 ميلادي، حيث تتنكر شقيقتا الأمير (سيتي وزين) في زي الرجال في عيد الربيع، بحثا عن شابين يليقان بهما وبجمالهما الخلاب، وفي هذه الرحلة تقع عيناهما على شابين (تاج الدين وممو) تنكرا في زي جاريتين جميلتين، فتنجذب الأميرتان إليهما وتخلعان عليهما خاتمين، ويغشى على ممو وتاج الدين ويغيبان عن الوعي! بعدها تبدأ رحلة من المعاناة والاحتراق، ومكابدة الأشواق حيث تظل روح ممو وتاج الدين تهفو لروح الأميرتين، ثم تلحظ هيلانة مربية الأميرتين الحالة النفسية لهما، وأنهما تعانيان منذ ذلك اليوم، وتبحثان عن "الجاريتين" المتنكّرتين، فتنكرت المربية العجوز في زي طبيبة، وجابت القرى، والمدن تبحث عن الشابين اللذين سلبا عقل الأميرتين، وتتوصل إليهما، وتنقل رسائل متبادلة بينهما، وبالفعل استطاع تاج الدين أن يتزوج من الأميرة سيتي، أما ممو فلم يتمكن من الزواج من الأميرة زين بسبب وشاية بكر حاجب الأمير زين الدين، الذي راح يُلفق الاتهامات والافتراءات حسدا حتى لا يتزوج ممو من زين. فيرفض الأمير تزويجها من ممو، وعندما تتدهور حالته الصحية يذهب الأمير ليخبره أنه وافق على تزويجه من شقيقته التى اعتلت صحتها وتلفت بسبب حرمانها من حبيبها، لكن ممو يغادر الدنيا ويقضي. ثم سرعان ما تلحق به الأميرة زين. فلم يُكتب لهما الالتقاء في الدنيا. فيلتقيا في الجنة.
تُغرق الرواية في الفانتازيا، وتقدم نموذجا نادرا لحب يكاد لا يكون موجودا في الأرض، وتعتمد في المقام الأول على الحُب الروحي البعيد عن الشهوات. حُب الروح للروح. حُب التعلق، الذي يُشبه حُب مجنون ليلى. والذي يؤدي للموت كما قال المتنبي:
وعذلْتُ أهْل العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ
فعجبتُ كيف يموتُ من لا يعشقُ
وعذرْتُهُمْ وعرفْتُ ذنْبي أنّني
عيّرْتُهُمْ فلقيتُ منهُمْ ما لقُوا
جاءت الرواية في أسلوب رائق ورشيق، ساعد عليه نبوغ البوطي في اللغة العربية والبلاغة، ما أعطى القارئ جرعة كبيرة من الفن، حتى عندما يسهب في الوصف، لا تشعر بالملل، من حلاوة اللغة وعذوبة المفردات، وقد صاغ الملحمة الشعرية في قالب روائي بديع، حيث تتصاعد الأحداث تدريجيا في عالم مدهش يحوطه حُب مقدس يُحدث دويا وصدى لدى القارئ الذي ينفعل مع الميثولوجيا ويحيلها للواقع. ومن أجواء الرواية: "من الذي – يا بُنيتي – يُصدق أن المرأة لا يتم جمالها إلا إذا كان الرجل هو مرآة ذلك الجمال، ومن الذي يُصدّق أن الرجل لا يمكن أن يكون لجماله معنى لو لم تأت المرأة سوى مجنونها؟ وهل كان لشيرين أن يتألق في الدنيا حسنها لو لم ينعكس إليها تاج خسرو وسلطانه! وهل سمع أحد في الناس أن زهرة قد افتتنت بالزهر، أو أن بلبلا غنى فوق أعشاش البلابل؟!".
وكذلك: "أشد أنواع هذا المرض يا بُني، نوع – لا أذاقك الله إياه – يسري من الألحاظ، ويسلك طريقه في الألحاظ. ثم يتخذ مستقره في القلوب. هو في أول أمره رعدة في المشاعر، ودقات بين ألواح الصدر، وتلون على ملامح الوجه. فإذا نما وترعرع، فهو برق يستعر وميضه في الأحشاء؛ تتلظى الجوامح بناره من غير لهب، ويشوي الفؤاد في وهجه من غير جمر. ثم إذا استقر وتمكن فهو نهش وفتك لسويداء القلب، يجرحه بلا مبضع، ويمزعه من غير سنان. فهناك يشخب دمه منهمرا من العينين، ويذوب الجسم بين بوتقة الحشا وزفرات الصدر. وهناك لا يغني الطبيب ولا عقاقيره ولا يُجدي سوى أن تتضام الروح وتطفأ النار ببرد الوصال".
دائما – أو هكذا تبدو – أن قصص الحُب الصادقة تنتهي نهاية تراجيدية مفزعة أو مزعجة. وهو ما دفع الراوي في النهاية أن يئن بهذا الدعاء: أى رب! أسألك بيحموم عشق المعذبين، وبكمال صدق العاشقين، أسألك بحلاوة الجمال ونشوته، وبعظمة الجلال ودهشته، أسألك بداء الهجر وعذابه، وبشهد الوصال ولذة شرابه. أسألك بلذة حب العاشقين، وبمرارة عداوة الرقباء والكائدين. أسألك بماء عيون البلابل والأطيار، وبالندى المتساقط على الورود والأزهار. أسألك بما خلّفه ممو من وجد وزفرات وبما أسالته زين من دموع وحسرات. أسألك بكل ذلك يا مولاي! أن تزيح عن عيني غشاوة هذه الظلال الفانية، حتى لا أرى فوق صفحة الدنيا إلا قوة سلطانك، ولكي لا أبصر في زجاجة مرآتها إلا رونق جمالك، ولكي أسكر بالخمر نفسها، لا بلون الكأس التى تترقرق فيها".
لعل أهم ما في رواية البوطي، التأكيد على سمو الحُب وروعته، وأنه مثلما يصنع المعجزات، يتحدى النهايات، ولا يتوقف عند فناء الأجساد! تمكن البوطي من اللغة سمح له بتقديم الفكرة بسهولة وفن حقيقي. وهو رجل الدين الفقيه، الذي كسر تقاليد مستوردة تعتبر حديث رجل الدين عن الحب جريمة نكراء، رغم أن الماضي البعيد يؤكد أن العالم تعلم منا الحُب. حتى أوروبا عادت لما كتبه ابن حزم في طوق الحمامة، للوقوف على حقيقة الحُب. الذي هو حق للجميع مثلما الماء والهواء!