الإثنين 6 مايو 2024

سبحة يحيى حقي

22-6-2017 | 16:01

أحمد إبراهيم الفقيه - كاتب ليبي

(في سياق حديثه عن اختلاف العادات والسلوكيات، بين مجتمع شرقي وآخر غربي، ذكر الأديب يحيى حقي، رحمه الله، في لقاء صحفي، أنه يعرف صديقا استضاف زميلا عائدا من بعثة في الخارح ومعه زوجته الأجنبية، وأبدت الضيفة إعجابها بسبحة كان يمسك بها المضيف، فقال يجاملها على الطريقة الشرقية، أن تتفضل باعتبارها هدية منه إليها طالما أعجبتها، ورأت المرأة الأجنبية بحسب سلوكيات وعادات مجتمعها، أن عدم أخذها للهدية، يحمل إساءة لمضيفها، فمدت يدها إليها، وهي تلهج بالشكر والثناء لمقدم الهدية، ولم يستطع الرجل أن يمنعها من أخذها أو يبلغها بأنه لم يكن يعني ما يقول، وأعطاها السبحة وهو يتمزق ألما وندما. واعتمادا على ما قاله أديبنا الكبير الراحل يحيى حقي كتبت هذا القصة القصيرة).

   كان الدكتور نبيل عضو هيئة التدريس في كلية التجارة، على علم بالظروف التي سيواجهها صديقه وزميله في التدريس بنفس الكلية الدكتور شريف، الذي عاد حديثا من بعثة دراسية لنيل الدكتوراه، من جامعة سوانزي في بريطانيا، وفي ذراعه زوجة من تلك البلاد، ولذلك فقد كان في استقباله واستقبالها مع زوجته في المطار، وأصر على أن يكون ضيفه على العشاء، في بيته، بعد فراغه من احتفالات الأسرة بعودته، وحرصا على مساعدة صديقه في استيعاب زوجته لأجواء وملابسات التحول إلى البيئة الجديدة، التي انتقلت إليها في مصر، أبلغه أن هذا العشاء سيكون بداية برنامج لاستضافة عائلات في بيته، من الوسط الجامعي، ممن يتقنون اللغة الإنجليزية، يساعد زوجته على خلق أصدقاء يملأون الفراغ الذي يمكن أن تواجهه، وهي تترك أهلها وأصدقاءها في بلادها. ولأنه يملك بيتا له حديقة في الضاحية الغربية للقاهرة، فقد اتفق مع صديقه أن تكون الحديقة مكانا لحفلات استقبال الأصدقاء، إلا أنه في هذه العزومة الأولى على العشاء، رأى أن تقتصر عليه هو وزوجته مع صديقه الدكتور شريف وزوجته البريطانية من سوانزي، واسمها جانيت. وكان الطقس في تمام اعتداله، والحديقة بها براح، ولمسة ذوق وجمال في تنسيقها ، وجانب مفروش بالنجيلة، مهيئا لمثل هذا العشاء في الهواء الطلق، والأضواء متوزعة توزيعا متقنا، وكانت هناك خادمة تساعد زوجته في البيت، وتتقن شواء اللحم على الفحم، وسبق العشاء ومجيء الضيوف، رش الحديقة بالمبيدات التي تقضى على وجود حشرات مثل البعوض أو الهاموش، ثم إعادة رشها بمادة عطرية ذات عبير طيب، علاوة على الزهور التي تحتويها الحديقة مثل الريحان والورد، وشجرة مسك الليل، تنشر أريجها في المكان، وكان الحديث يدور باللغة الإنجليزية إكراما لزوجة هذا الصديق، كي تشعر بالاندماج، وتجنيبها أي إحساس بالملل، حتى الموسيقى التي تدور كخلفية للحديث، تم اختيارها من سونيتات غربية من العزف على البيانو والكمان، وراعى المضيف في العشاء أن يكون من لحم الضأن المشوي باعتبارها طعاما مشتركا لأهل الشرق والغرب، وجعل الأطباق الجانبية مزيجا من الطعام الشرقي والغربي، فهناك شوربة البصل المعروفة في الغرب، وهناك السلطة الخضراء بمختلف محتوياتها من خيار وطماطم وجرجير، التي تعطيها هوية عالمية، وهناك ورق العنب والظولما والكوسة المحشية، من الأطباق المحلية، ومن أطباق الغرب طبق الفقاع المقلي في الزبدة، ثم انتقلوا إلى الصالون الموجود في الشرفة الأرضية الفسيحة، التي تكاد أن تكن جزءا من الحديقة، لا يميزها إلا ارتفاعا عن مستوى أرض الحديقة، والسقف الذي يحمي الجالسين من الندى عندما يزداد كثافة مع مضي الوقت أثناء الليل.

   وكانت السيدة جانيت سعيدة بأن هذه الضيافة الجميلة، وهذه الصحبة الممتعة، في هذا المناخ البديع، لن تقتصر على عزومة اليوم فقط، وإنما ستتواصل في أيام قادمة، وأثناء جلوسهم في الشرفة، وأمامهم صحون الحلويات الشرقية والفاكهة وكؤوس الشاي والقهوة، كان الدكتور نبيل، يتحدث وفي يده سبحة مضيئة، لها إشعاع، وزاد هذا الإشعاع سطوعا وألقا عندما تواري بدر كان يضيء السماء، ويتسلل بأشعته إلى الشرفة، وبقيت فقط أضواء المصابيح التي ترسل ضوءا خافتا من مكانها فوق أغصان الشجر، فبدت وكأن الرجل يمسك بين أصابعه حفنة من النجوم، فبادرت السيدة جانيت إلى التعبير عن شديد إعجابها بالسبحة الفضية، متسائلة عن المعنى وراء إمساكه بها، فأخبرها أن الناس في بلاده يتباركون بها، ويعدون بها التسابيح والأدعية التي يقولونها، فازدادت إعجابا بالسبحة وهي ترى نقوشا جميلة فوق حباتها وشاهدها، قائلة إنها ستسعى للحصول على واحدة مثلها مستقبلا، مما حدا بالمضيف، وعلى الطريقة الشرقية في المجاملة، التي لا تعني دائما أن قائلها راغب في تنفيذ ما يقول، إلى أن يعرض عليها أن تأخذها على سبيل الهدية، منتظرا أن تعتذر عن قبولها، إلا أن المرأة أبدت شديد فرحها بما قاله لها الدكتور نبيل، وأشعت عيناها بأنوار السعادة للعرض، ومدت كلتا يديها لاستلام الهدية، وملامح وجهها تكاد ترتعش انفعالا وإثارة وهي تعبر عن معاني الشكر والامتنان لهذه الهدية الثمينة، التي كانت ستتردد كثيرا في قبولها، لأنها تعرف قيمتها العالية، لولا خشيتها أن يمثل الرفض إساءة إلى مشاعر الدكتور المضيف.

    عندما انتهت السهرة، وخرج الدكتور نبيل لتوديع ضيفيه حتى مكان السيارة، عاد ليجد زوجته واقفة بانتظاره في ردهة البيت، تسأله في صوت يتهدج غضبا وانفعالا وثورة وألما، قائلة:

ـ ما الذي فعلته يا سيادة الدكتور؟

   وهي عادة لا تناديه بهذا المسمى الرسمي إلا في المواقف الحاسمة والجادة، ولم يكن الدكتور نبيل يحتاج إلى أن يسأل زوجته عما تعنيه بسؤالها، فهو كان يتوقع أن يغضبها ما حصل، فهذه السبحة الفضية، كانت هدية جاءته بها من مدينة مكة، عندما ذهبت مع والديها إلى الحج، دون أن يذهب زوجها معها، لأنها كانت تؤدي واجبا إنسانيا نحوهما، تساعدهما وتقوم في ذات الوقت بأداء فريضة الحج، وبذلت جهدا أثناء وجودها في مكة لانتقاء هذه السبحة، لتقدمها هدية إلى زوجها، تعبيرا عن امتنانها وشكرها لأنه كان كريما معها، يساعدها في أن تفي بواجبها إزاء والديها الطاعنين في السن، حتى لو كان ذلك على حساب واجبها نحوه ونحو بيتهما، وقد اشترت السبحة من رجل من أهل التصوف والولاية، يتخصص في بيع المسابح، ولا يبيع شيئا غيرها، سعيا للحصول على الأجر والثواب وليس على الربح، واشترتها بثمن كبير، لأنها كما قال صاحب الحانوت، تحفة يعز وجود مثيل لها، منقوش على كل حبة من حباتها التسع والتسعين، اسم من أسماء الله الحسنى التي تتوافق مع هذا العدد، أما الشاهد فقد احتوى نقشا، يكاد يكون معجزا، لمآذن الحرم المكي التي هي ثلاث عشرة مئذنة، مغطاة بقشرة من الذهب، فهل يصح بعد ذلك أن يتنازل عنها في جلسة عشاء ودردشة لامرأة أجنبية، لا تعرف قيمتها الدينية، ولن تتعامل معها إلا باعتبارها ديكورا؟

    لم يكن زوجها يملك دفاعا عن نفسه إلا قوله بأنه لم يكن يتوقع أن تمد يدها لتأخذ السبحة، عندما عرضها عليها مسايرة لها، ومجاملة ليس إلا، وإنها كانت موجودة تشهد بعينيها وتسمع بأذنيها ما حصل. فهل كان يصح أن يدفع يدها بعيدا عنه، قائلا لها إن ليس هكذا يفعل الناس، أم كان مرغما أن يضع السبحة في اليد التي امتدت لأخذها، مسلما أمره إلى الله، بعد أن وقع المحظور؟

    وكانت تستطيع زوجته أن تتفهم ما قاله الزوج، ترى وتسمع الحرج الذي أوقع فيه نفسه عندما جاملها بعرض السبحة عليها، إلا أن قلبها لم يطاوعها على الرضا بما حصل، وظلت الموجدة تسكن قلبها لا تغادره، لفقد هذه السبحة الثمينة، العزيزة جدا على نفسها.

   ورغم ما بدا من فهمها لما قاله زوجها، إلا أنه اكتشف في صباح اليوم التالي، أنها تقاطعه، وتمتنع عن الحديث معه، وتعد له إفطاره وتقدمه له دون أن تبادله كلمة واحدة، تعبيرا عن سخطها لما فعل، وظلت كذلك يوما وراء الآخر، لا تستجيب لأسفه واعتذاره.

   وبطبيعة الحال، فقد كان لهذا الغضب الذي أظهرته زوحته، انعكاساته على علاقته بزميله الدكتور شريف، لأنه لن يستطيع الالتزام بما وعده به من الاستمرار في استضافته، ومساعدة الزوجة على التأقلم مع المحيط الاجتماعي في القاهرة، وصار يتجنب أن يلتقي به، ويستخدم شتى الأعذار للهروب منه، ثم لم يجد حلا يعفيه من حرج الالتقاء به، إلا أن يسعى إلى الانتقال من جامعة القاهرة، باحثا عن مكان شاغر في جامعة أخرى حتى وجده في كلية التجارة بجامعة حلوان، وأسرع بالانتقال إليه، مدركا أنه يعني في نفس الوقت فكا لعرى الصداقة مع زميله وصديق عمره شريف، وهي خسارة تضاف إلى ما جناه من خسارة للسبحة وما حصده من سخط الزوجة، من أجل كلمة مجاملة لم يكن يعنيها، ولكنه سيندم على قولها حتى آخر يوم في عمره.

    Dr.Randa
    Egypt Air