الجمعة 26 ابريل 2024

دستور التربية والتعليم لا «عامًا»

مقالات1-1-2022 | 15:05

استأنفت أول أيام العام الجديد بدون أنفاس أبي، وريحة أبي، فأصبح علي اعتياد حضن أمي منفرداً بارك الله لي في عمرها وصحتها، ذلك الحضن مصدر الحنان والدفء، لا حضن الأمان والسند الذي لم أدرك أنني سأشعر بكل مشاعر الغربة والبرودة تلك بدونه، هي مشاعر فطرية لا تعكس انتقاصاً من قدر الأم معاذ الله بقدر ما هي تعكس قيمة وقدر وعظم وجود حائط السد المنيع المسمى بالأب، خاصة لو كان بقيمة شخص أبي.

على أية حال، ولأنني أردد من خلفه مقولته الخالدة "أنا على ثقة بكرم ربنا"، فقد عاهدت الله، وعاهدته ونفسي أن أسير على دربه لعلي ألتمس بعض الدفء في خطواته عوضاً عن أنفاسه، ولأنه كان رحمة الله عليه ورضوانه وغفرانه شديد الإعجاب بالدولة الألمانية دون سائر القارة الأوروبية، بالنظر لأن الثقافة الألمانية بأسرها قائمة على معايير النظام والنظافة والاعتزاز بالذات، وهي ذاتها المعايير التي لطالما حيا بها وتمنى تعميمها بمجتمعاتنا التي نالت فوضى اللا نظام واللا نظافة منها.

لذا تابعت بكل شغف، حلقة اليوم من برنامجه وبرنامجي المفضل "مصر تستطيع" للإعلامي المتفرد/ أحمد فايق، مستضيفاً العالم المصري الدكتور/ هاني سويلم، أستاذ إدارة الموارد المائية والتنمية المستدامة، بقسم هندسة المياه بجامعة أخن بألمانيا، ومدير تنفيذي لوحدة "اليونسكو للتغيرات المناخية وإدارة المياه" بنفس الجامعة، والذي أعد استراتيجية مصر لإدارة المياه والطاقة لإنتاج الغذاء بالموارد المائية، متحدثاً بالصورة عن أحد نماذج المدارس الألمانية.

والجميل في الأمر، أن حوار كل من الإعلامي والعالم كان مصحوباً في الخلفية بصورة حية من داخل أحد فصول المرحلة الابتدائية في مدرسة ألمانية حكومية والتي أكد الدكتور/ هاني سويلم فيها على التالي:

-أن 95% من المدارس الألمانية هي مدارس حكومية.

-أنه لا شروط لقبول التلاميذ باستثناء كون سكنهم في محيط المدرسة بحد أقصى 5 كم.

-أن المدارس الألمانية بها تلاميذ من جنسيات من مختلف دول العالم.

-أن تعليم اللغة الألمانية في المدرسة هو ليس فقط من قبيل تعليم اللغة، وإنما على سبيل تعليم الثقافة الألمانية وشكل الحياة اليومية.

-أن اليوم المدرسي يبدأ في السابعة صباحاً حتى الثانية عشر ظهراً، بإجمالي 5 ساعات دراسية هي عمر اليوم الدراسي.

-يبدأ التلاميذ من بعده فسحتهم وتناولهم لوجبة الغذاء المدفوعة من قبل أولياء الأمور، والتي يتناول فيها التلاميذ وجبتهم وفق اختياراتهم من الأصناف المتاحة، ويقومون بوضع الكميات المناسبة بأطباقهم بالنقصان لا الزيادة، والقيام بوضع المزيد إذا ما دعت الحاجة.

-يستأنفون من بعدها القيام بأداء واجباتهم المدرسية لمدة ساعة برفقة مدرسيهم قبل أن ينتهي اليوم الدراسي.

-أن من يرغب من أولياء الأمور في إبقاء أبنائه لفترة ما بعد الظهيرة تصل للرابعة عصراً، هي خدمة متاحة ومدفوعة الأجر.

تلك القواعد والمبادئ، وأكررها القواعد والمبادئ التي أرستها الدولة الألمانية في مدارسها، هي ذاتها نفس المفاهيم التي أقرتها من بعد الحرب العالمية، فخروج دولة بحجم ألمانيا من حرب دولية مدمرة دون مساندة من أية دولة أخرى أو منظمة أو حتى موارد تذكر، فالبنية التحتية مدمرة بالكامل، والشعب في أحط مستوياته النفسية، ومعظم من تبقى من الجنس الألماني النقي هم من النساء المترملات.

وبرغم من كل هذا، راهنت على النشء، وأيقنت أن المستقبل بهم ولهم حتى وإن بدأ من مقياس ما هو تحت الصفر، وأدركت أن الأهداف المستحيلة تتحقق حتى وإن كانت بعيدة المدى فإنها تتبع سياسة الصبر والعمل الدؤوب الحثيث، حتى أنه لشدة صرامتهم وطاقة تحملهم أبدعوا في صنع الماكينات وأية صناعات أخرى تدخل في هذا الإطار، حتى صارت تسميتهم المنطقية كلما ذكر اسم الجنسية "الماكينة الألمانية" التي تدهس كل ما يأتي في طريقها.

من الجدير بالذكر، أنني لا أدعو في عموم قناعاتي لمحاكاة أي نموذج بطريقة القص واللزق، فالنظام الألماني وجد صداه والتجاوب معه لأن الرغبة والعزيمة من قبل الأمة الألمانية كانت حاضرة وبقوة، لذا كان اختصارهم لعنصر الزمن في الصالح العام، رغماً عن أن فكرة تقديم الخدمات المجانية في ألمانيا ليس بالأمر المعمول به في العموم، من منطلق القناعة بأن تقدم المجتمع هو عملية ومسؤولية مشتركة بين كل الأطراف الذين وجب عليهم إبداء التعاون سواء بالجهد أو بالمال للمضي قدماً بنهضة الدولة.

أما وإسقاطاً على حال قطاع التعليم في مصر، فالوضع أشبه بصراع متشابك ومعقد إلى أقصى درجات العصوبة التي يمكن وصفها، ما بين صراع أجيال وثقافات وخلفيات تعليمية واجتماعية، لا فقط بين أطراف العملية التعليمية الواحدة، وإنما يمتد الأمر لداخل الأسرة المصرية ذاتها، وهو أمر لا تتولى مسؤوليته الجهة المسؤولة عن العملية التعليمية، وإنما هو واجب مقدس ومشترك من كافة الأجهزة والمؤسسات لتولي تربية أولياء الأمور أنفسهم، قبيل توليهم مسؤولية الإنجاب وإرسال أبناءهم للتعليم.

واجب التعليم المقدس الذي تضطلع بمسؤوليته أي دولة أمام أبنائها، لا يتأتى ولا تكتمل أطره إلى برغبة وعزيمة ونية صادقة على الأطراف الأخرى اتباعها، سواء بإتمام الواجب المقابل للتعليم وهو التربية وتقويم الأعوج، وإنجاح الأصلح.

وكما صرّح السيد الرئيس في إحدى لقاءاته بمقولته الشهيرة " يا بخت عبد الناصر بإعلامه"، للتدليل على مدى قوة وتأثير القوى الناعمة في توجيه الرأي العام بما يتوافق مع مصلحة الدولة لا هدمها، أرددها من خلفه، فالإعلام وكافة وسائله وطرقه التقليدية والحديثة مسؤول مسؤولية مباشرة عن تربية المجتمعات فكرياً وخُلقياً وتنويرياً وحتى استشرافياً.

وإنني إذا كنت قد دعوت فيما سبق لإعادة استئناف ما قدمته لنا الدولة لأعوام من استلهام العزم والهمة الشعبية، من خلال إطلاق مسميات مختلفة على كل عام مقبل "كعام المرأة" و "عام الطفل" و "عام ذوي الهمم"، فإنني سأدعو لجعل "عام التربية والتعليم" أعواماً ممتدة حتى وإن بلغت عقوداً، وجعلها دستور عمل وحياة، لا مجرد وزارة أو هيئة أو عام منصرم، نستأنف بعده سلوكيات لطالما اعتبرها الصالح منا سلوكيات معيبة لا تتناسب مع الشخصية المصرية التي أبهرت العالم لآلاف السنين، واستعادت بوصلتها، وستظل بإذن الله.

يقيني بالله لا ينقطع، وأملي في وطني لا ينضب، والقناعة التي أنشأني عليها والدي لا تزول برحيله، فهو المردد دائماً "إذا دقت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها"، نحن مأمون بالإصلاح والتفاؤل والإعمار ومد يد العون والمساعدة وإبداء النصح وتداول الكلام الطيب.

Dr.Randa
Dr.Radwa