تدور أحداث رواية "خرافة الرجل القوي" للروائي الجزائري بومدين بلكبير، في أربع مدن؛ حيث يبدأ السرد الروائي في مدينة شارلُورَا البلجيكية وينتهي في مدينة عنابة الجزائرية. يقتل شاب يُدعى "سليم زهري"، على يد ثلاثة رجال من أصول تركية في حديقة عمومية في مدينة شارلورا؛ المدينة المليئة بالمهاجرين المغاربة والأفارقة والأتراك والايطاليين وغيرهم. هنا تتدخل أسباب غير موضوعية "أكثر منها موضوعية" تدفع ببطل الرواية إلى السفر والبحث عن حقيقة هذا الشاب المقتول، الذي لا يعرف عنه سوى أنّه مهاجر غير شرعي من أصول جزائرية.
وبعد التقاء بطل الرواية مع شاب مغربي يدعى "عدنان عبد اللاوي" عرف أن الشاب الذي يبحث عن حقيقته كان قد هاجر إلى أوروبا من أجل العمل والعيش بكرامة، قادما على متن قارب متهالك، هلك أكثر من نصف الحراڤة الذين رافقوه قبل أن تكتمل رحلة هجرتهم...إلخ.
ينطلق بطل الرواية الصادرة عن منشورات ضفاف ببيروت من مدينة باريس بحثا عن حقيقة سليم زهري، دون أن يعرف لعائلته مكانا. يتجه في بداية الرحلة نحو إحدى مدن الشرق الجزائري "قسنطينة". تظهر قسنطينة في الرواية بفرادتها الطبيعية وخصوصية عمرانها، المدينة التي بنيت فوق صخرة، تربط جسورها المعلقة بضاف صخورها العاشقة، الجسور والصخور التي لها علاقة حميمة بالإبداع والجنون، وحتى بالانتحار"انتحار لمين مرير عالم الفيزياء النووية، انتحار صالح زايد الإعلامي والمثقف المهموم بقضايا الأمة، انتحار الشاعر فاروق أسميرة، انتحار رشيد زهري عم البطل...الخ". لا تظهر قسنطينة في الرواية بمكونها الطبيعي فحسب، بل كذلك بمكونها الثقافي وتراثها العريق "العادات والتقاليد والأعراف، والأعلام، والموسيقى، والمقاهي العريقة كمقهى النجمة...". كما تظهر المدينة في الرواية بكل تناقضاتها الصارخة والصادمة في الكثير من الأحيان.
لم يعثر بطل الرواية على أي أثر لعائلة سليم زهري في قسنطينة، وبعد أن كاد يفقد الأمل، يلتقط معلومة عابرة تجعله يتجه إلى مدينة "عنابة" وهي مدينة ساحلية قريبة من الحدود الجزائرية التونسية؛ يلتقي هناك في طريقه للبحث عن سليم زهري بالعديد من الشخصيات في أماكن وأحياء مختلفة تنقل لها البطل، في رحلته تلك يكتشف الكثير من أسرار المدينة والناس.
تتمظهر في الرواية العديد من الأفكار، كالعلاقة بين الشرق والغرب من خلال نظرة الشرقي للآخر الغربي "شخصية عدنان عبد اللاوي وكيف يبني رؤيته لجيرانه الأوروبيين" :والعكس، من خلال نظرة الغربي للشرقي، التي تتجلى في رؤية مارسيل الحاقد والذي يكره البطل. كما تشتغل الرواية على الهوية والاثنيات، ويتمظهر ذلك في الزواج بين العرب والقبائل/الأمازيغ، حيث لازالت الهوية على هذا الأساس في الجزائر محل إشكال كبير وتنازع بين هويات متنوعة، عرفت العلاقة بينها الكثير من الصراعات والتجاذبات. الرواية لا تبحث عن إمتاع القارئ فقط، بقدر ما تحفز لديه حواس التأمل وطرح الأسئلة.
الرواية حققت متابعة نقدية متميزا فقد كتب الناقد محمد رابحي إنها رحلة في المكان والماضي، وشخصيات تقود إلى شخصيات.. وحكايات فرعية مثيرة. بلكبير لم يختر لعمله قضية أو قضايا كبرى، بل اكتفى بحدوثة محورية وتفريعاتها. هي ما فتحت نوافذا على الواقع وتترك للقارئ مجالا لاستشفاف عدد من القضايا.. على أن أبرزها وفق منظوري "الهوية"، هوية البطل. لا من حيث هي سؤال عرقي لكن من منطلق كونها ضائعة بين صفة دولة ولادولة. الرواية مكتوبة بلغة سلسة، بنية تتطور باطراد، وخطاب واضح وفاضح.. ربما كانت هذه عناصر معادلة تأسر القارئ عادة.. وأظنني لذلك تمكنت من انهائها بسرعة. ولذلك أيضا أنصح بها في مثل هذا الظرف المتوتر" .
فيما رأت د.فائزة خمقاني أن الرواية تنطلق من البداية من قلب الحدث، عارضة لوحات ومشاهد، مشابهة في ذلك شكل السيناريو في الأفلام وهو ما قوّى المشهدية فيها" .
ولفت حسان مرابط إلى أن التاريخ في الرواية يلعب دورا بارزا، ولازالت الكثير من الأخطاء التي ارتكبها أشخاص بعينهم في الماضي يدفع ثمنها اليوم وطن بأكمله" .
مقتطفات من الرواية
"الحرية، بونة، هيبون، السلام، سارة، حياة، نادية، الفجر... كلّها أسماء كُتبت على ظهر السفن الراسية. السفن هنا لها تواريخ وأسماء، وكينونة. هؤلاء البحارة نفخوا في روح تلك المجسمات الخشبية الميتة، ومنحوا لها حيوات. يموتون وتبقى سفنهم ومراكبهم مخلدة لذكراهم في قلوب من أحبوهم أو عرفوهم.
اقتربت من أحدهم سائلًا عن حسان رايس، فقد سبق وأخبرتني عمتي الطَّاوُسْ أنّ زاكي فيما مضى كان يقضي نهاية الأسبوع في الصيد مع صديقه حسان على متن مركب والده. وبما أن هناك عائلة تحمل لقب زهري في تكوش (شطايبي)، ربطت بين الأمرين، وفكرت في أن يكون سليم صديقا مشتركا بينهما.
أرشدني ذلك الرجل إلى مقهى الحواتة، الذي يقع على بعد أمتار قليلة فقط في زاوية مهملة. في المقهى المتواضع يجلس بعض الرجال يرتشفون قهوتهم، وهناك من يضرب بقبضة يده على الطاولة بهستيريا مبالغ فيها بسبب انغماسه في لعبة الورق أو لعبة الديمينو.
لمحت النادل وسط سحب الدخان التي ينفثها رواد المقهى بتلذذ واشتهاء، ووجع في أحيان أخرى، من أفواههم التي خربها السوس، أو من أنوفهم المزكومة. هو كهل هزيل يتحرك بتثاقل. يرتدي مئزرا بلا أزرار وبجيوب ممزقة، يكاد يفقد لونه من مقاومته للزمن وللغسيل. غزا الشيب جزءا كبيرًا من شعر رأسه، ويظهر أنفه المكسور غارقًا في شاربه الكث" .
**
"الطريق شبه خالية، والغولف تنهب الأرض نهبًا، وصوت أزنافور العذب يتدفق من راديو السيارة وينفذ إلى أعماقي المظلمة، بشذاه يزيح ستار العتمة عن روحي ويضفي أشعة البهجة على نفسي المتعبة. أستمتع كثيرا في هذا الجو، ولا أشعر إطلاقا بوطأة الطريق ووعثاء السفر. سرحت في مغامراتي في الجامعة مع صديقاي في كلية الهندسة إبراهيم التارڤي المالي وأحمد بابا الموريتاني. وقد استمرت صداقتنا لما بعد الجامعة، ففي باريس لا أصدقائي الجزائريون يعتبرونني جزائريًا صِرْفًا بسبب أمي الفرنسية الأصل وما يتردد عن موقف أبي من الثورة التحريرية، ولا أصدقائي الفرنسيون يعتبرونني فرنسيًا أصيلًا بسبب عرق أبي الجزائري الأصل. غالبا ما كنت أجد نفسي أكثر قربًا من أصدقائي من جنسيات عربية أو افريقية أو لاتينية".
**
مررت ببعض المنازل والعمارات الشاحبة، والمساكن نصف المكتملة البناء التي تجرح العين. الفيلات المزروعة هنا وهناك تطل بوجهها الحائر على زرقة البحر المختلطة بلون السماء الملبدة وبخضرة الطبيعة الموحشة في الفصول الباردة. توقفت أمام عمارة خرافية متهالكة لا لون لها، من تزاحم الكتابات والخربشات العشوائية والرسومات غير المتجانسة التي طبعها على واجهتها مراهقون وعشاق ومناوبو مقرات الأحزاب السياسية في الحملات الانتخابية الكرنفالية؛ ممنوع رمي الفضلات هنا، أيمن زائد سعاد يساوي قلبا يخرقه سهم، الأفالان: لي تعرفوا خير من لي ما تعرفوش، الإسلام هو الحل، عمار النقش، وغيرها من الكتابات الأخرى البذيئة التي تخدش حياء العائلات المحافظة.
في الأثناء انتبهت لسيل من السِّباب والشتم متدفق من صرخات وعراك مجموعة أطفال، سرعان ما توقف انهماره، وعادوا من جديد إلى الجري خلف كرة بلاستيكية،كأنهم وسط ساحة حرب يغطيها التراب والحصى، وبضع أكياس من القمامة ممزقة ومتفرقة في الأنحاء. اقتربت من حارس المرمى الذي يقبع حافي القدمين وسط حجرين. وضعت في يده مائة دينار، وطلبت منه أن ينادي على حسان رايس. صعد الدم إلى وجنتيه المترهلتين من شدة الغبطة، ولم ينبس ببنت شفة سوى أنه تخلى عن الثغر الذي كان يرابط حوله، وانطلق كالسهم مخترقًا مدخل العمارة".