السبت 27 ابريل 2024

الأرشيف المفقود

مقالات5-1-2022 | 19:39

قبل ساعات من دخول القوات الأمريكية إلى العاصمة العراقية بغداد فى العام 2003، تحركت قافلة من سيارات الدفع الرباعى من وسط العاصمة تحوطها آليات من الحرس الجمهورى العراقى لحمايتها، أسرعت القافلة بأقصى سرعة فى اتجاه الحدود العراقية السورية للخروج من العراق.

تلقت عناصر متخفية من طلائع القوات الخاصة الأمريكية داخل العراق أوامر من المخابرات الأمريكية بمطاردة هذه القافلة والاستيلاء عليها بأى ثمن أو تدميرها مستعينة بالدرونز، بالفعل اشتبكت الدورنز مع الآليات العراقية ودمرتها وبدأت تطلق النار على سيارات القافلة من أجل أن تتوقف وقد أصبحت على مسافة قريبة من الحدود، لكن فجأة صدرت الأوامر من قيادة الجيش الأمريكى بالتوقف عن ملاحقة القافلة وتركها لتعبر فى سلام إلى سوريا وسط دهشة الضباط الأمريكان الذين كانوا يطاردونها.

فى اليوم التالى وسط آلاف الأخبار التى تتحدث عن قرب دخول القوات الأمريكية إلى قلب عاصمة العراق، كان هناك خبر صغير لم يلق الاهتمام الكافى يقول أن هناك اتصالا تم بين الكرملين والبيت الأبيض، وقدم الأمريكان اعتذارهم إلى موسكو لإطلاقهم النار بطريق الخطأ على قافلة تضم طاقم السفارة الروسية فى بغداد بقيادة السفير الروسى فى العراق فلاديمير تيتورينكو أثناء مغادرتهم الأراضى العراقية بسبب ظروف الحرب.

ماوراء الخبر لم يكن على هذه الدرجة من بساطة الخطأ فعندما استشعر مسئولو السفارة الروسية بأن الأمريكان كشفوا خروجهم وبدأوا مطاردتهم، اتصلوا على الفور بموسكو وتدخلت الرئاسة الروسية بأقصى سرعة متصلة بالبيت الأبيض وكانت الرسالة الروسية واضحة بشكل لا يقبل التأويل، بأن عدم ترك القافلة تمر وتعريض حياة الدبلوماسيين الروس للخطر يعنى الدخول فى حالة حرب.

فى نفس هذه الساعات الحاسمة قبل دخول القوات الأمريكية إلى بغداد وبعد حادث إطلاق النار "بالخطأ" على الروس فى هذه الساعات كان من المفترض أن تكون أركان الإدارة الأمريكية كلها مجتمعة فى غرفة العمليات لإدارة حرب قد تغير مجرى التاريخ، لكن الشخصية الأبرز وقتها مستشارة الأمن القومى الأمريكى كونداليزا رايس غادرت بأوامر من الرئيس الأمريكى جورج بوش العاصمة واشنطن متوجهة إلى موسكو، ليفاجأ الروس بوصول كونداليزا رايس إلى مطار عاصمتهم دون سابق إنذار، وهى تحمل طلبا واحدا مقابلة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين.

 حاول المسئولون فى الكرملين إبداء غضبهم مما حدث مع قافلة السفارة مع رفضهم أن تقابل الرئيس، لكن رايس أصرت فهم يعلمون لماذا جاءت بهذه السرعة وفى هذا التوقيت الحاسم ولا داعى للخداع فوافقوا على طلبها الوحيد.

نقلت كونداليزا رايس للرئيس الروسى ما تريده واشنطن وهو الاطلاع على ما كانت تحمله القافلة الروسية، ولكن الرئيس الروسى نفى وجود أى شيء حملته القافلة سوى أعضاء السلك الدبلوماسى الروسى العاملين فى السفارة ببغداد، فهمت رايس من هذا النفى أن الكنز ضاع من بين يدى واشنطن وهو يستقر الآن فى أحد الأبنية المحصنة لجهاز المخابرات الروسى.

ماهو الكنز الذى كانت تحمله القافلة الروسية؟ ولماذا كانت واشنطن تريده وغضبت بشدة لفشلها فى الحصول عليه؟ هذه الأسئلة ظلت أجزاء كبيرة من إجابتها معلقة، وظهرت قبل سنوات بعد الغزو الأمريكى للعراق بعض شذرات من المعلومات حول كنز القافلة الروسية، فالقافلة كان أغلب مستقليها من ضباط المخابرات الروسية وليس دبلوماسيين فقط، وكان كنزها هو الأرشيف الكامل لجهاز المخابرات العراقية وأخرجته من العراق إلى موسكو.

مرت قبل أيام فى يوم 30 ديسمبر الذكرى الخامسة عشر لإعدام الرئيس العراقى صدام حسين، ولكن مرور هذه الذكرى أعاد من جديد فتح ملفات الغزو الأمريكى بأكمله بعد ثمانية عشر عاما من وقوعه، وكان على رأس هذه الملفات قصة هذا الأرشيف المفقود الذى لم يقل الروس يوما ما أنهم حققوا انتصارا ضخما بالحصول عليه أو اعترف الأمريكان بالهزيمة لفشلهم الذريع فى الوصول إليه.

بعد مرور كل تلك السنوات سواء على الغزو أو إعدام صدام حسين تحررت كثير من الإجابات من سجون السرية، وبدأت تتكشف حقيقة ما حدث فى هذه الساعات قبل الغزو، وأن تفاصيل مادار فيها وماسبقها كان أكثر إثارة وشراسة من وقائع الحرب نفسها، وسمحت معلومات هذا الأرشيف لمن حصل عليه لعب أدوارا مؤثرة فى سياسات المنطقة.

أول الإجابات حول قصة الأرشيف المفقود أن القافلة الهاربة فى سلام كانت هى كلمة النهاية، فقبل أحداث الحرب بشهرين وصل إلى بغداد فى زيارة شديدة السرية وبطرق دخول معقدة يفجينى بريماكوف المستشرق والصحفى ومدير الاستخبارات الروسية السابق.

 لم يكن بريماكوف شخصية عادية بالنسبة للمنطقة العربية فهو يحفظ حارات وشوارع العواصم العربية عن ظهر قلب وصديق لكافة السياسيين العرب بسبب عمله الصحفى كمراسل لصحفية البرافدا السوفيتية لأكثر من عشرين عاما فى الشرق الأوسط، بالإضافة أنه يتكلم العربية بطلاقة وبعدد من اللهجات، التقى بريماكوف بصدام حسين وأخبره أن الأمريكان قادمين لا محالة، وأن موسكو تعرض عليه أن تنتقل عائلته إلى روسيا لحمايتها، وإذا أراد هو أيضا والأهم نقل ملفات العمليات والأرشيف الكامل للمخابرات العراقية حتى لا يقع هذا الكنز المعلوماتى فى يد الأمريكان، بالتأكيد لم يعلم أحد طبيعة ما دار فى هذا اللقاء الذى جمع بريماكوف وصدام، لكن قبل أيام تكلم حفيد بريماكوف عن هذا اللقاء الذى نقله عن الجد بريماكوف من خلال حديث معه قبل وفاة الجد فى العام 2015 "أن  صدام حسين قبيل الحرب فقد على ما يبدو الإحساس بالواقع وكان يثق بقوته وعظمته بشكل غير طبيعى  ومن الناحية الإنسانية والعاطفية يصعب تصور أبعاد الكارثة التي وقعت في ذهن صدام وعقله ونفسه عندما أدرك أنه خسر البلد وأن أقرب المقربين له والذين حلفوا له يمين الولاء خذلوه وهجروه"، لم يستجب صدام لكل طلبات رجل موسكو القوى بسبب جنون العظمة الذى سيطر عليه فى هذه الأوقات، إلا أنه وافق على أن تتولى موسكو نقل أرشيف المخابرات العراقية خارج العراق فى حالة تأكد حدوث الغزو الأمريكي ويبدو أن كل الشواهد التى كانت تحدث حول صدام حسين قبل الحرب بشهرين لم تقنعه أن هناك حرب قادمة.

فكرة نقل الأرشيف الكامل للمخابرات العراقية واستخدام ضباطه لصالح موسكو لم تكن وليدة الأحداث بل صاغها بريماكوف وقت أن كان رئيسا للاستخبارات الروسية، فكان يدرك أن الأمريكان لن يتركوا العراق بعد القرار الكارثى الذى اتخذه صدام بغزو الكويت وأنهم قادمون إلى بغداد لا محالة حتى بعد مرور تلك السنوات وقد تحقق ما توقعه واقتنع به بوتين لأن بريماكوف كان أستاذه الأول وقت أن وصل للحكم فى العام 2000.

رأى بريماكوف أن مشروع عودة روسيا القوية الذى يتبناه بوتين بعد انهيار الاتحاد السوفيتى خطوته الأولى عودة روسيا إلى الشرق الأوسط، لتبدأ فى الصعود ومنافسة الولايات المتحدة وحتى تتحقق هذه الخطوة يلزم موسكو الكثير من المعلومات عن الشرق الأوسط  والرجال الذين يديرون هذه المعلومات، فهذا الشرق تغير كثيرا منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، ولا يوجد أفضل من معلومات جهاز بحجم المخابرات العراقية أنفق عليه صدام حسين مليارات الدولارات لتأسيسه، بل كانت هناك أيضا شبه توأمة بين الجهازين الروسى والعراقى.

بعد أن غادر بريماكوف بغداد بأيام، بدأت تصل إلى العراق دفعات من أكفأ ضباط المخابرات الروسية لتنفيذ عملية النقل حيث دخلوا العراق بنفس السرية والطرق المعقدة، كما فعل أستاذهم بريماكوف حتى لا تشعر بهم المخابرات الأمريكية التى كانت تراقب كل صغيرة وكبيرة داخل العراق.

توقع الأمريكان أن الروس يحضرون لشيء ما، لكن تقديراتهم وبسبب غرور القوة أوصلتهم إلى نتيجة أن الروس الضعفاء أكبر أحلامهم نقل صدام وأمواله إلى موسكو، وأن بوتين الجديد فى الحكم لا يمتلك طموحات عودة روسيا إلى الشرق الأوسط ولعب دور الاتحاد السوفيتى المنهار.

رغم كل العيون الأمريكية والبريطانية أيضا التى تتابع ما يحدث داخل العراق قبل أيام من الغزو ظل الروس يجهزون لعمليتهم الكبرى انتظارا للحظة التى يهربون فيها كنزهم الثمين من بغداد، وعندما أدرك صدام حسين أنها ساعات ويدخل الجنود الأمريكيون إلى عاصمة العراق وافق على تنفيذ النقل لتحمله القافلة الروسية وسط ارتباك وذهول الأمريكان عندما أدركوا متأخرين حقيقة ماحدث.

رغم أن الروس لم يقولوا يومًا ما بصراحة أنهم انتصروا فى هذه المعركة على خصومهم الأمريكان، ولم يعترف الأمريكان بخيبتهم وفشلهم إلا أن كل الدلائل تشير أن حركة روسيا تغيرت وبدأت رحلة صعودها فى الشرق الأوسط  بعد أن وصل هذا الكنز المعلوماتى إلى خزائن موسكو وأن حلم بيجينى بريماكوف تحقق ويبدو أنها كانت مصادفة، ففى عام وفاة بريماكوف وصلت أولى طلائع القوات الروسية إلى دمشق.

عندما نتابع حجم هذه الأحداث التى استدعتها ذكرى إعدام صدام ولا تنفصل عنها وقائع الغزو الأمريكى سنجد أن كل ماتعرض له العراق العظيم كان وراءه حماقة صدام حسين الذى وضع أوهام الشعبية قبل مصلحة شعبه وتصور أنه يمتلك مفاتيح القوة فى مواجهة اللعبة الدولية الخطرة.

المضحك أن فى ذكرى الإعدام وبعد الغزو الأمريكى وكل ما مر بالعراق الجميل يخرج دراويش صدام ويحاولون تبرير قرارته الكارثية وعلى رأسها غزو الكويت، وكان تبريرهم الساذج أن هناك من ورط صدام من داخل العراق وخارجها فى قرار غزو الكويت وكأن صدامهم بلا عقل .. بالفعل هؤلاء لاينطبق عليهم سوى مقولة شاعر العراق أبو الطيب المتنبى "لكل داء دواء يستطب به، إلا الحماقة أعيت من يداويها"

 

Dr.Randa
Dr.Radwa