الجمعة 26 ابريل 2024

حبر على ورق

مقالات5-1-2022 | 23:57

قالوا إن فأسه لا يحملها إلا ذُو بأسٍ شديد، منْ ارتَوى مِن حَليبِ أُمهِ، هكذا أذاعَ النّاس مُذّ تفتّحَ شباب "إبراهيم" وبَزَعَ نجمه، يَتنَاقل عن فتوتهِ قصصا تُلهِب المشاعرَ، وتُثير حَمية كُلّ غِطريفٍ عظيم، لا يفتأ والده يُذيع على الملأِ، وبين رواقِ السّامر حكاية فأسه العجيبة، التي اقتطعها من قضيبِ السِّكة الحديد، يَسرِدُ مَأخوذًا ونشوة السَّكرى تَطفحُ من عينيهِ ، كيفَ ادّخَرها لأجلِ "إبراهيم " ، ساعة كَانَ جنينا يَسبحُ في بطنِ أمهِ، في غمرةِ عاطفته البريئة يحملهُ في لفائفهِ، يُمرِّر يدهُ فوقَ هراوتها، ثم يَصيخُ بأذنيهِ كأنّما يتَسمّع  صَخب مستقبله الحَافِل.

 نشأ "إبراهيم" كغيرهِ، يَحتَجزُ مكانه بينَ أبناءِ الطّينِ، يمَرحُ بينَ طيّاتِ المروجِ الخُضر، بيد أنّ حَظّه من العافيةِ لم يكن على مرامِ والده، الذي أثقلتهُ أحمال الشَّيخوخة، تنكّبت الصّبي أوجاع صدره، يحتويه والده بطرفٍ؛ تذوب مهجته كمدا وهو يُصارِعُ سُعاله الخَانق، غير أنّ فأسه لم تغب عنه آناء اللّيلِ وأطراف النّهار، يُشرِقُ لمرآه وجه الرّجل، اشراق النّجم المثير في غَيهبِ الدُّجى.

فعلت حكايات الشّيخ عن فتوةِ ابنه فعلَ السِّحر في النّاسِ، أرغمتهم أن يُسلِموا عن كُرهِ بتلك الفأس العَصية، التي لا يقوى عليها إلّا فَتى "كإبراهيم " آتَاهُ الله بَسَطةً في الجِسمِ، في شعورٍ بالغَ العذوبة يُطَالِعُ بغيرِ احتفَالٍ جَحَافلَ الفلاحين، مُتَخذةً وجهتها للحقولِ، يُشيرُ بعصَاه تَحتَ ضَوء ِ الصّباحِ الرَّمادي مُستَهينا:" وهل هناك فأس كفأسِ إبراهيم ، لم تُخلق يد لحملها "، تكفي كلمته لأن تقتلَ الحَماسَ في الصُّدورِ، أن تَخلِقَ هالةً نور تُزَاحِم أضواء النُّجوم المُشرَئبة بأعناقها تَحتَ ستار اللّيل الكئيب.

كبرَ "إبراهيم" وكبرت معه خرافة فأسه، تبَدّى كَمن يَرقدُ في مَهدِ الأحلام، يُحيطهُ برد الآمال المُنعشة تَسري في أوصالهِ جنة وحريرا .

يَسرحُ بنظراتهِ اليّابسة في عِرقِ الأُفق ، تُلاحقهُ العيون بِخيوطِ إعجابٍ، تّمسّه هزة من الارتياحِ تنتظم أوصاله ، حلّ في جلساتِ الصَّبايا تحتَ وسوسةِ مشاعل النّور في دهاليزِ البيوت ، ومن مثل " إبراهيم " فتوة وشبابا ، ياحَظّ من تحظى بقُربهِ وتخطف قلبه، أخذت الحمية منه كُلّ مأخذٍ ، فاندَفعَ في عِمايةٍ مُتعالي الهِمة ، تتطاير نظرات التّحدّي صريحةً يكيد أبناءَ جيله، الذين  شغلهم فأسه التي لم تَمسسها يد، ولم تخطر على قلبِ بَشرٍ ، نمت بينَ جوانحهِ نبتة الحُبّ جرفه تيارها؛  "سكينة" ابنة مأذون البلد، ها هو يرى أثر سيرته فيها ، يقطرُ حديثها عنه عبير الحبّ الفوّاح، كانت شابة ريّانة مفعمةٌ بالنّضَارةِ، تَغوصُ في عَبقِ الصِّبا، تفَيضُ خِفةً وغواية ، أوكلها جمالها الفتّان لأنْ تُصبحَ مهوى أفئدة فتيان القرية المشبوبة، لكن أنّى لهم، وهي تدورُ في فَلِك صاحب الفأس وفتاها الصّنديد، من تدفّقَ حُبه في عروقها فَسدّ مسالكه، لم يكن من مهربٍ إلّا أن يفوزَ بهذهِ الدّرة الثّمينة، عاشت "سكينة" في أسيرة الفأس، تُردّد ببلاهةِ البَبّغاء، تتراقص مُنثنية في دلعٍ، تشدو مبتهجة بهذا الحُبّ بعدما أضحت حظيّة زينة الشّباب، حلّت في دارهِ بعدما حلّت من قبل في قلبهِ، لكنّ أيامها مرّت رتيبة، قبلَ أن تتَحوّل أتعسَ ما يكون، باتت الفتاة تخوضُ في لُججٍ من الحِيرةِ، ترى أحلامها كَسَرابٍ بقيعةٍ يَحسبهُ الظّمانُ ماءً، خَاب ظنّها فيهِ، لم تكن أقاصيص النّاس إلّا خيالا باهتا، رأته على حقيقتهِ مُجرّدا؛ فتى خوّارا لا يَصلحُ لشيءٍ مما يصلح لهُ الرِّجال، ذاتَ أمسيةٍ وهو في لحظات عجزهِ، انفَلَقَ حجر صبرها، لم تتمالك حفيظتها، اندفعت موبّخة، ارتعد جسده كالمحمومِ جَمدَ في مكانهِ، يبرِقُ مشدوها لحديثها الجارح ، لم يتحمّل المسكين فخرّ مُتهالِكا، كُتِبَ عليه أن يقضي بقية حياته رهين العَجر ، قالوا:" لقد أصابته العين ونَالت من فتوتهِ"، وفي يومٍ شَاتي، خَرَجت " سكينة" مع الصّباحِ تَسبقُ الطّيرَ في البكورِ لبيت أبيها، فشلت محاولات إرجاعها، اجتمعَ على "إبراهيم" أوجاع المرض والفراق، ليودِّعَ الحياةَ مُشيّعَا في مَحفلٍ مَهيبٍ، وإلى الآن والقرية لا حديثَ لها إلّا حديث فأسه الغريبة، حتى أحاديث "سكينة" المستميتة لم تفلح في كَشفِ زيفها .

Dr.Randa
Dr.Radwa