توقع المحلل في مجلس العلاقات الخارجية والمدير البارز السابق لبرنامج روسيا في مجلس الأمن القومي خلال ولاية جورج بوش الابن توماس جراهام أن تشهد أوروبا تحولاً عميقاً في الهيكلية الأمنية بسبب التوتر حول أوكرانيا.
وكتب في صحيفة "ذا هيل" أن الناس استيقظوا منذ ثلاثين عاماً على عالم أصبح فيه الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة حدثين من الماضي. لقد انتهى الصراع الآيديولوجي العملاق في القرن العشرين بانتصار الديموقراطية الليبيرالية على الشيوعية الشمولية بعد أقل من 50 عاماً على إلحاق هزيمة ساحقة بالفاشية. وبينما كانت الحروب العرقية المحلية تختمر في البلقان والقوقاز، انتهى صراع القوى العظمى من القارة الأوروبية. وكان للولايات المتحدة فرصة إعادة صياغة النظام الأمني الأوروبي لتعزيز سلام دائم وازدهار آخذ بالتوسع. اليوم، يرحب العالم بالسنة الجديدة على خلفية توتر متزايد واحتمال نشوب حرب في أوروبا. أثار الحشد العسكري الروسي على الحدود مع أوكرانيا والخطاب العنيف المناهض لكييف والغرب المخاوف من اجتياح روسي وشيك. في جهد هادف إلى ردع موسكو، عملت الولايات المتحدة على حشد حلفائها وشركائها الأوروبيين خلف مجموعة من العقوبات في حال عمدت روسيا إلى تنفيذ الهجوم. وفي وقت هددت باستخدام القوة، ضغطت روسيا لعقد مفاوضات، أولاً مع الولايات المتحدة، من أجل تقنين تقسيم جديد لأوروبا وتوسيع فضاء النفوذ الروسي باتجاه الغرب. يهدف ذلك إلى إلغاء ما تراه روسيا هجوماً عمره 30 عاماً نقل المؤسسات اليورو-أطلسية المعادية إلى عتبة حدودها.
وأشار المقال إلى أن الولايات المتحدة قبلت بإجراء محادثات هذا الشهر، لكن ما من مسار بديهي لتخطي ما يبدو أنه خلافات أمريكية-روسية غير قابلة للتوفيق بينها حول أسس الأمن الأوروبي. لقد كانت مسألة وقت فقط قبل أن يصطدم جهد أمريكا الطويل المدى لتوسيع عالم الديموقراطية في أوروبا كأحد أعمدة أمنها، بجهد روسيا التاريخي لتوسيع محيطها الأمني بأكبر مقدار ممكن في أوروبا لحماية نظام سياسي غريب عن الأعراف الغربية ويقف خارج المسار التاريخي للنمو الأوروبي نحو ديموقراطية أعظم.
بمجرد أن بدأت روسيا تتعافى من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة خلال العقد الأول تحت حكم الرئيس بوتين، كان السؤال الوحيد بحسب جراهام هو متى وأين ستقف موسكو ضد ما تراه تعدياً أمريكياً على أمنها. في الواقع، يجد الكاتب أنه من اللافت للنظر كيف رفعت روسيا التحدي فقط اليوم، بعدما أصبح هامش سلامتها في أوروبا عند أضيق نطاق له منذ تأسيس الأمبراطورية الروسية قبل 300 عام وبعدما دخلت نظام توازن القوى الأوروبي.
إن تطورات اليوم ليست سوى أحدث نسخة من التنافس بين روسيا وأوروبا والذي امتد على مدى القرون الثلاثة الماضية. لقد تحول الخط الفاصل بين مديي النفوذ الأوروبي والروسي باتجاه الغرب والشرق بمرور الوقت كنتيجة للحروب.
تم تقنين النتائج عبر المعاهدات في نهاية الصراعات العسكرية كما حدث في مؤتمر فيينا (1814-1815)، ومؤتمر برلين سنة 1878، ومعاهدة فرساي سنة 1919، ومؤتمر يالطا في 1945 وإعلان هلسينكي سنة 1975. ورأى المقال أن الفريد من نوعه في الوضع الراهن إصرار روسيا على إعادة رسم خريطة أوروبا قبل حصول اختبار ضخم للسلاح وليس كنتيجة له.
إذا تواصلت الولايات المتحدة والدول الغربية ككل مع روسيا، فمن غير المرجح أن تكون النتيجة عبارة عن هيكلية أمنية مستقرة مع خط فاصل محدد. عوضاً عن ذلك، ستكون هنالك هيكلية أمنية تتحرك فيها المنافسة حول أوكرانيا نحو مرحلة مختلفة، ترتكز أكثر على صياغة التنمية الداخلية في البلاد عبر انخراط نشط داخل أوكرانيا، بدلاً من استخدام قوة الأسلحة من الخارج.
سيسعى الأمريكيون وشركاؤهم الأوروبيون إلى تعزيز دولة أوكرانية موالية للغرب يمكن أن تندمج بشكل كامل في المؤسسات الأورو-أطلسية بينما ستتحرك روسيا لمنع ذلك وجذب أجزاء من أوكرانيا بقوة إلى مدارها. سيكمن التحدي في تقليص مخاطر انتهاء هذا التنافس بالحرب وبناء تنافس آخر يضمن بروز انتصار ناجم عن مراكمة مطردة لأفضليات متدرجة مع مرور الوقت.
وأشار جراهام إلى أن النتيجة يجب ألا تكون خارج إمكانات الديبلوماسيين الحاليين.
لكن ذلك سيتطلب تركيز المفاوضات لا على مسائل مبدئية غير قابلة للتوفيق بل على خطوات براجماتية لنزع فتيل التوترات. لا يوشك أي من الطرفين على الاستسلام، لكن من المرجح أن يوافق كلاهما على إجراءات تلبي الحد الأدنى من احتياجاتهما الأمنية مع ترك احتمال تحقيق أهدافهما النهائية مفتوحة في المستقبل. "إذاً فلتبدأ الديبلوماسية".