أربع سنوات تفصلنا عن ثورة الثلاثين من يونيو سنة ٢٠١٣، وثلاث سنوات هى تجربة تنفيذ الرئيس عبد الفتاح السيسى لمشروعه لبناء مصر الحديثة على أنقاض كل ما كان موجوداً من قبل. سواء أربع سنوات أو ثلاث سنوات تعالوا نحتكم للثورة الأم باعتبارها هى الأساس الذى بنى المصريون عليه مصرهم الجديدة وطالبوا الرئيس عبد الفتاح السيسى، بل وألحوا عليه أن يقبل أن يكون رئيساً لمصر.
لنعد للحكاية من أولها:
كان التحرير المكان الأوحد لمظاهرات الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، حتى عندما انتقل التظاهر لميادين أخرى فى عواصم محافظات مصر ابتداء من الإسكندرية مروراً بأسيوط وطنطا وغيرها من المحافظات. سميت ميادين التحرير فى بر مصر. لكن فى ٣٠/٦ لم يحتكر التحرير فكرة التظاهر. ما من ميدان فى أى مدينة من مدن مصر إلا وكان فيها مظاهرات. وكل ميادين القاهرة الأخرى كانت فيها مظاهرات. لدرجة أن شوارع بعض الأحياء الواسعة شهدت مظاهرات.
عن نفسى ذهبت لمظاهرات شارع الخليفة المأمون أمام وزارة الدفاع لمرة واحدة. ثم ترددت على الاتحادية أكثر من مرة. كان آخرها فى الوقت الذى ألقى فيه الفريق أول عبد الفتاح السيسى – وزير الدفاع والإنتاج الحربى وقتها - بيانه يوم الأربعاء ٣/٧ الماضى.
شارع الخليفة المأمون يوجد فيه ضريح جمال عبد الناصر. وأنا مندهش أن يدفن عبد الناصر فى هذا الشارع ولا يطلق اسمه عليه. سألت من يتتبعون أسماء الشوارع. فقالوا لى أن اسم الخليفة المأمون أطلق على الشارع فى زمن جمال عبد الناصر. لأن عبد الناصر كانت لديه تعليمات محددة بعدم إطلاق اسمه على أى شوارع أو ميادين أو أمكنة فى بر مصر.
ثم بعد رحيله فى ٢٨/٩/١٩٧٠ جاء أنور السادات الذى قال عبارته الشهيرة أنه سيمشى على طريق عبد الناصر. فأكمل المصريون الجملة: ولكن بأستيكة. والنكتة المصرية تفهمنا أنه مشى على طريق عبد الناصر ليمحو – أو ليحاول محو كل ما قام به عبد الناصر – لم يكن من الطبيعى فى ظل هذا المناخ الساداتى أن يطلق اسم عبد الناصر على شارع الخليفة المأمون فبقى يحمل نفس الاسم.
احترت كيف أدخل لشارع الخليفة المأمون؟ من ميدان العباسية صعب. ومن ناحية كوبرى القبة حيث ضريح عبد الناصر ربما كان ذلك مستحيلاً. لأن الموانع والسواتر تقلل من مرور المارة وتترك جزءاً بسيطاً للسيارات. ولذلك دخلت من الشارع الجانبى الذى يوجد عند آخره مستشفى عين شمس التخصصى وقبلها مباشرة دار ضيافة جامعة عين شمس. وقبلها وبالقرب من طريق صلاح سالم توجد قيادة المنطقة العسكرية المركزية التى ترددت عليها بعد ٢٥ يناير الماضى للقاءات ممتدة وطويلة مع اللواء حسن الروينى قائد المنطقة فى ذلك الوقت. والذى أصبح صديقاً حميماً بعد اللقاء الأول. فالرجل يدخل قلبك منذ الكلمة الأولى والمصافحة الأولى. فضلاً عن أنه بلدياتى. فهو من أبناء البحيرة. وأنا أعتبر بلدياتى بمثابة أقاربى.
وجدت لديهم درجة عالية من التحضر. لم يغلقوا الشارع تماماً. سمحوا للسيارات بأن تمر خلال جزء من الشارع. وكانت شعاراتهم معروفة ومحددة سلفاً أنهم يطلبون من القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسى النزول للشارع وأخذ زمام المبادرة من جماعة الإخوان الظلامية التى تحاول أخذ الوطن والعودة بها إلى العصور الوسطى.
اللافتات التى كانت بأيدى المتظاهرين الذين تحولوا إلى معتصمين كانت نفس الشعار الذى يتردد بين الناس: انزل يا سيسى، مرسى مش رئيسى. وقفت فى وسطهم، مظاهراتهم مثل مظاهرات التحرير. بشر مصريون جاءوا من كل مكان فى بر مصر. أغلبهم من القاهرة. ليست لديهم دوافع كثيرة ولا متداخلة ولا حتى نقاشات من أجل الاتفاق على هذا الشعار أو ذاك. فالهدف واحد. من الممكن أن يكون هناك هتاف ضد الإخوان. وحاكمهم أو مندوبهم فى قصر الاتحادية. لكن طلب النزول من السيسى كان هو اللحن الأساسى الذى دارت حوله كثير من الهتافات.
بالنظر المجرد يمكن أن تقول أن مجموعهم يتعدى الآلاف. لكنه لم يصل إلى الملايين. ولأنه شارع فقد وصل آخرهم من ناحية وسط القاهرة إلى أوائل ميدان العباسية. فى حين أن أولهم من نواحى مصر الجديدة وصل إلى أول ضريح جمال عبد الناصر.
من السهل أن تذهب على قدميك من مظاهرة أو مسيرة وزارة الدفاع إلى قصر الاتحادية. المكان كان اسمه روكسى. ويبدو أن هذا القصر كان مكاناً للحكومة الاتحادية فى زمن الوحدة المصرية السورية. أو ربما الوحدة التى تلتها التى كانت موسعة. وكانت شكلية أكثر منها حقيقية. وكان فيها أكثر من دولة عربية.
القصر مهيب. فيه الكثير من العمارة الحديثة. وأيضاً من أشكال البناء التى عرفتها القاهرة فى عصورها المختلفة. أمامه مباشرة نادى هليوبوليس ومن الناحية الأخرى بدايات مصر الجديدة التى بناها وأسسها البارون إمبان بالبواكى الشهيرة ونمط البناء الجميل. وبالقرب من القصر مقهى كنا نجلس عليه فى الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة. وجروبى مصر الجديدة. وأحد الفنادق التى تحمل اسم مصر الجديدة. وشكله الخارجى من فنادق القاهرة العريقة والقديمة.
أفضل طريقة للوصول إلى مظاهرات واعتصام الاتحادية أن تأتى من خلال طريق صلاح سالم. وفوق الكوبرى الذى يمر من تحته نفق صلاح سالم. والذى أقيم فى زمن الرئيس المعزول مبارك يمكن أن تبدأ رحلتك التى تقودك إلى آخر الشارع عند نهاية روكسى وبدايات حى منشية البكرى.
لكل مكان طابعه فى التظاهر. ففى الاتحادية وجدت من يبيعون مجلات ومنشورات الاشتراكيين الثوريين. ووجدت فرقة الفن ميدانا تقدم عرضاً شبه مسرحى، شبه غنائى يتفرج عليه المارة لبعض الوقت ثم يتركونه ويمضون. أيضاً كانت هناك سيارات نصف نقل تأتى وفوقها جهاز تسجيل ضخم مما يستخدم فى الأفراح. وتسميها العامة: دى جى. وبعد وقوفه يتم تشغيل أغانى وطنية من أغنيات ستينيات الزمن الجميل. فتتجمع الناس لكى تستمع لهذا الغناء وتردده. وتعلو معه لعنان السماء.
لم يكن التظاهر على الأرض فقط. فقد مرت تشكيلات من طائرات القوات المسلحة، ٦ طائرات اختلفنا ونحن وقوف على نوعها كعادة المصريين. بعض الناس قالت إنها هليوكوبتر، وبعضها قال إنها أباتشى. وبدأ من تصرفوا كما لو كانوا خبراء طيران من الطراز الأول. يحكون أن طلعة طائرة الأباتشى تكلف الشئ الفلانى.
فى أسفل كل طائرة علمان. علم مصر وعلم السلاح الذى تنتمى إليه. لكن فى كل الطائرات كان ثمة ضوء أخضر فى أسفله رأيناه جيداً عندما استتب الليل ونزلت على الدنيا سكينته وظلامه. ويبدو أن الضوء الأخضر كان فيه إشارة الترحيب بالمتظاهرين وإعطاؤهم الأمان والقول لهم من خلال الإشارة الخضراء أننا جئنا هنا لحمايتكم والدفاع عنكم.
من الهتافات التى توقفت أمامها: لو كنت عاوز السكر وعاوز الزيت، روح لسنية لحد البيت. وأنا لم أحب ذكر اسم أم مرسى فى هتاف جماهيرى. لكنى اكتفيت بعدم الترديد ولم أبد أى اعتراض. فالجماهير الغفيرة من حقها أن تفعل أى شئ وأن تهتف بأى كلام وما تفعله صواب. لأن هدفها الأول والأخير هو سلامة الوطن. ربما بسبب ميراث قريتى. فقد كان والدى يرحمه الله ينادى أمى باسمى أنا. ولم ينطق أبداً اسمها وهو فى الشارع.
أكتب كل هذا على عجل، لكن القضية التى تشغل ذهنى: متى نوثق ما جرى فى ثورة ٣٠/٦/٢٠١٣؟ وأنا أقصد بالتوثيق الكتابة والصوت والصورة. فأعتقد أن كل ما جرى فى ٣٠/٦ موثق، الصحف كانت تكتب، وكتب كثيرة صدرت. ومن ناحية الصوت والصورة فأعتقد أن زميلى فى البرلمان – أو الذى أنا زميله – المخرج الفنان صاحب الموقف خالد يوسف. قد قام بتصوير جميع المظاهرات من الجو مستعيناً بطائرات من القوات المسلحة. وبتسهيلات كبرى. ولا أدرى أين توجد الأفلام التى صورها؟ هل هى بحوزته؟ أم أنها لدى القوات المسلحة باعتبارها وثائق مهمة من وثائق تاريخ مصر الحديث؟ تصور الشعب المصرى فى لحظة تحول نادرة.
أين وثائق ٣٠/٦؟
كلما هلت علينا الذكرى طرحنا السؤال. ولم نجد إجابة، ثم تناسينا السؤال بفعل مرور الأيام وكر الليالى. لكن هذه المرة نطرح السؤال قبل أن ننسى. أيضاً عندما أتوقف أمام الفعل الكبير فى ٣٠/٦ وأضيف له كلمة الثورة أتذكر على الفور كتاب المناضل الاشتراكى: ريجى دوبرييه: ثورة فى الثورة. كانت ٣٠/٦ ثورة فى ثورات سبقتها، يصل البعض منها إلى اعتبار أنها ثورة فى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ومن كتب هذا المفكر اللبنانى فرحانى صالح، والمفكر المصرى سيد ياسين فى تقديمه لكتابه: حول تجربة الإخوان من جمال عبد الناصر إلى عبد الفتاح السيسى. وهو كتاب منشور فى الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة ٢٠١٥.