السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

استعمار السوشيال ميديا

  • 19-1-2022 | 20:55
طباعة

تمتلك وسائط السوشيال ميديا جغرافيا كأنها بلاد طبيعية مساحة أراضيها بلا حد، دائمًا ما يشتعل الصراع بين الأطراف التى تريد السيطرة على هذه الوسائط حول نقطة رئيسية وهى من يحتل أكبر مساحة من تلك الأراضى.

المغنم الحقيقى فى هذا الاحتلال ليس الأرض والجغرافيا لأننا فى واقع افتراضى محصلة أراضيه تساوى صفر، لكن المغنم هو الشعوب التى تعيش على هذه الأرض الافتراضية والشعوب هنا هم المستخدمون لتلك الوسائط ويستعملونها يوميا ويقدر عددهم بالمليارات.

لا يهتم المحتل أو المستعمر من وراء هذا الاحتلال على الأقل فى البداية أن يوظف المساحة المحتلة فى بث أفكاره بشكل مباشر أو يضع على الأرض المحتلة شعاراته ليعرف الجميع من هو.. الأهم هو احتلال أكبر مساحة ممكنة داخل بلاد السوشيال ميديا مترامية الأطراف .

هذه المساحات المحتلة من أراضى وجغرافيا السوشيال ميديا قد تكون صفحات على فيسبوك، مئات من قنوات اليوتيوب تبث آلاف الفيديوهات ، حسابات لا تحصيها على تويتر تضخ التغريدات كل دقيقة بلا توقف، معلومات مجهولة المصدر أو مزيفة تغطى كل الموضوعات على متصفحات الشبكة المعلوماتية وتنقل بواسطة المحتل إلى وسائط السوشيال ميديا فى دائرة مركبة بلا بداية أو نهاية، وفى كل يوم يزيد المحتل من مساحة أراضيه ويبتكر وسائل جديدة فى تثبيت احتلاله.

عكس الاحتلال والاستعمار القديم الذى كان يقهر الشعوب الخاضعة للاحتلال ويفرض عليهم وجوده بالقوة المباشرة للسلاح، محتل جغرافيا وأراضى السوشيال ميديا لن يغضب الشعوب السوشيالية الواقعة تحت احتلاله والمأسورة داخل المساحة التى احتلها سيقدم المحتل للشعوب السوشيالية كل ما هو شيق وطريف وينسون تمامًا أنهم واقعين تحت احتلال أشرس من الاستعمار القديم.

كان المستعمر القديم يستهلك سنوات ثم يحرك الجيوش والأساطيل ويضخ الملايين من الأموال فى آلة الحرب للسيطرة على مساحة من الأرض تقدر بالكيلومترات ويستعبد عدة آلاف من البشر ولن يمضى وقت طويل حتى تخرج المقاومة لتتحرر أرضها ، لكن المستعمر الجديد أو محتل السوشيال ميديا تقوم حساباته الاستعمارية على الدقائق والساعات ودون عناء تحريك الجيوش والأساطيل وفى ألا زمن يحصد الملايين من عقول البشر دون أى مقاومة وبنفس السرعة الزمنية يصبح المحتل صديقًا عزيزًا وليس عدوا بل يتطوع الخاضعون للاحتلال بالدفاع عن من يحتلهم ويخدعهم إذا تعرض لأى أذى.

هل يبقى مستعمر السوشيال ميديا ومحتل أراضيها طويلا بهذا اللطف المزيف ويقدم للشعوب أو المستخدمين عطاياه المسمومة دون أى مقابل؟ بالتأكيد لا يوجد محتل أو مستعمر لا يبحث عن مكاسب وراء ما يفعله ولكنه يحقق مكاسبه بطريقتين الأولى تحسب بالأيام والأسابيع والشهور فخلال ما يقدمه للشعوب المحتلة من مواد تبدو بريئة وعادية على صفحاته وقنواته وفيديوهاته وتغريداته تتسلل من خلال هذه المواد الحالة الرئيسية التى يريد صناعتها فى عقل المحتلين.

إذا أراد المحتل أن يجعل الشعوب المحتلة تؤمن بالخرافة وتكره العلم وتطارد الأوهام سيستخدم آلاف من الكيلومترات المحتلة على وسيط سوشيالى كاليوتيوب، وتبدأ منتجات الاحتلال من فيديوهات تخلط الأساطير بالمعتقد الدينى، وتجعل عقل المتلقى أو المحتل مصدق لكل ما هو خرافى، ليفقد بعدها القدرة على التمييز بين الحقيقة والإفك، ويصل الأمر بعد ذلك إلى أن يكره المحتلون الحقيقة وتصبح الأكاذيب هى الحقيقة ويقاتلون من أجل الدفاع عن أكاذيب المستعمر التى وضعها فى عقولهم .

يمكن للمستعمر الخبيث أن يحول المساحات المحتلة من العالم الافتراضى أو الصفرى إلى شحنة من الغضب يحملها المستخدمون وينقلونها إلى عالمهم الحقيقى، يلجأ هنا إلى وسيط آخر أو صفحات الفيس بوك سيعبئ الصفحات بمرويات وحكم ومواعظ وأمثلة عن قيمة عظيمة وهى العدل لن يبحث الواقعون تحت الاحتلال فى حقيقة هذا الكم المزيف من الحكمة والتى لو دققنا فيها لن نجد لها أصلا من حقيقة وحتى لو وجد لها أصل فهى مقتطعة من سياقها وأتت من فترات تاريخية عنوانها الظلم والبؤس، ولم تكن هذه المرويات والمواعظ سوى آهات المظلومين .

 يقارن الواقعون تحت الاحتلال بين ما يبثه المستعمر من قيم مزيفة وواقعهم الطبيعى والحقيقى الذى هو أفضل ألف مرة من زمن آهات المظلومين وإذ لم يعجبهم واقعهم المعاش فلا يوجد إلا العمل لتغيير الواقع لكنهم أدمنوا زيف المستعمر وأكاذيب صفحاته.

ينفجر الواقعون تحت الاحتلال فى البكاء على الزمن الجميل الضائع ويلعنون حالهم ويصبحون غاضبين فأين مجتمعهم من المجتمع "المثالى" الذى صنعه المستعمر فى المساحات المحتلة من العالم الافتراضى وكل غرض المستعمر هنا أن تنتقل حالة الغضب التى سيطرت على شعوب السوشيال المحتلة إلى عالمهم الحقيقى فيدمرونه، وهنا يغسل المستعمر يديه منهم ويتركهم فى الخراب الذى صنعوه بأيديهم.

تتنوع الأمثلة من الحالات التى يصنعها يوميا محتل المساحات الشاسعة من السوشيال ميديا فى الجمهور المستسلم فغير تغليب الخرافة على العقل أو إشاعة الغضب يمكن فى أسبوع واحد أن يهز الثقة فى كل ما هو محيط أو يجعل المستسلمين لاحتلاله ينفقون أيامهم وطاقتهم وأموالهم فى الدفاع عن أشخاص أو قضايا هى فى الأساس تخدم المحتل وتناصب العداء للمستخدم المخدوع .

تلك هى الطريقة الأولى التى تحتاج لبعض الوقت لكن فى أحيان أخرى يقع أمر ما فى العالم الحقيقى ويراه مستعمر السوشيال ميديا فرصة لا تعوض من أجل تحويل الحدث عن حقيقته أو اختلاق توجه ورأى عام يخدم مصالحه منطلقًا من هذا الأمر والحدث، يتحرك سريعًا محتل السوشيال ميديا وتتحد كافة المساحات المحتلة من صفحات وقنوات وحسابات تحت راية واحدة ولا يهم هنا أن يكشف عن وجهه الحقيقى لأنه عند حرق كل هذه المساحات المحتلة لتحقيق غرضه فبعد ساعات سيحتل غيرها من جديد ليستمر فى لعبته الخبيثة.

ستجد العجب والمحتل ينفذ هذا الأسلوب السريع فالصفحة التى كانت تنشر النكات و"القلش" تحولت عن طريق المحتل إلى صفحة ثورية تدعو إلى تحقيق عدالة غامضة والفيديوهات التى كانت تناقش أفضل طرق الطهى أصبحت تقدم منشورات سياسية تخدم أغراض المحتل والتغريدات التى تعطى نصائح حول وسائل تحضير الأعشاب والصحة والجمال أصبحت تمجد فى شخصية ما يريد المحتل أن يصنع منها بطلا من ورق.

عندما يحقق المحتل أغراضه يختفى الفارق بين ما هو افتراضى وواقعى ويصبح ما صنعه من رأى عام على السوشيال ميديا هو نفسه القناعات الموجودة فى عقول المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعى وينطلقون مخدوعين وراءها لتطبيقها فى عالمهم الحقيقى أو يحملون البطل المزيف على أكتافهم ظانين أنه بطل حقيقى هم من صنعوه، لكن الحقيقة أن القناعات الموجودة فى الرؤوس والبطل المزيف كلها صناعة يد المحتل الذى استعمر السوشيال ميديا لينفذ أغراضه على حساب المخدوعين .

لا يوجد احتلال دون مقاومة لكن مقاومة الاحتلال القديم كانت تتم على أرض حقيقية لكن هذه المقاومة تتم على مساحات من الجغرافيا محصلة أراضيها صفر، إذا أردنا مقاومة هذا المحتل الخبيث الذى يسمم بزيفه وخبثه الواقع الحقيقى يجب أن نسأل أنفسنا لماذا نتركه يمارس هذا الاحتلال دون مقاومة؟

المقاومة هنا يجب أن يكون لها قاعدة أولى وهى الفعل فقبل  أن يتحرك هو على هذه الوسائط ويزرع فيها سمومه، ننطلق نحن مستخدمو الخيال اللا محدود، نقدم العلم بطريقة مبتكرة فى مواجهة الخرافة ، نقدم الحقائق بعيدًا عن أسلوب النشرات لتدحض الزيف والأكاذيب، لا نترك لهذا المحتل مساحة خالية يحتلها ونتقدم بالفعل والخيال ولا نقنع فقط برد الفعل، فى كل دقيقة بل فى كل ثانية نضخ المعلومات الموثقة لتكون قاعدة ثابتة يبنى عليها مستخدم السوشيال ميديا الحقيقة التى تجعله يفضح أكاذيب وشائعات المحتل الخبيث.

بالتأكيد لا توجد مقاومة سهلة أو هينة وتحقيق الانتصار على هذا المحتل وفضحه يحتاج إلى العمل والمزيد من العمل، لكن نتيجة الانتصار على هذا الزيف والأكاذيب والشائعات ستكون وعى حقيقى سيمتلكه مستخدم السوشيال ميديا يحرر من خلاله عقله ويستطيع به إدارة حياته فى صدق وواقعية بعيدًا عن إفك المحتل وخداعه.

الاكثر قراءة