الجمعة 19 ابريل 2024

دفتـر عــزاء أم عيـد لمصـر والشهـداء

مقالات29-1-2022 | 10:02

تمر الذكرى السبعون للاحتفال بعيد الشرطة المصرية العظيمة في أجواء آمنة مُطَمئِنَة زاخرة عامرة بكل الخير والستر والإعمار، أجواء لطالما افتقدنا ريحها لسنوات وربما لعقود، عقود على مستوى افتقاد معيار التطور والإعمار، وسنوات على مستوى افتقاد معيار الأمن والأمان، تأتي تلك المقارنة كنتيجة منطقية وطبيعية لأمة عاصرت حافة الانهيار، وشهدت بكلتا عينها كل أشكال النار والدمار التي نالت من شوارعها ومؤسساتها وكياناتها الثقافية والتاريخية والنظامية والقانونية.

لم يكن ليتصور أي من أفراد تلك الأمة أن الأمر إلى زوال، أو إلى انقضاء غمة على أقل تقدير، فجلال الحدث كان كفيلاً بأن يعظّم من مشاعر الخوف والرعب والترويع سواء من الحاضر أو المستقبل، فالماضي وحده كان قد أصبح تاريخاً حديثاً محل جدل ومشاحنات بقدر اختلاف الرؤى وردود الأفعال.

فمن جانبي كان لي أباً عظيماً حكيماً -رحمه الله- لطالما افتخر طوال عمره بفترة انضمامه لصفوف القوات المسلحة على سبيل الضباط الاحتياط إبان فترة حرب الكرامة، وهو الوحيد داخل نطاق أسرتنا الذي لم تتملكه المخاوف منذ أول يوم إلا بعد النطق بخطاب التنحي، وقال حرفياً "الله وحده يعلم إلى أي مصير نحن ذاهبون، ربنا يستر"، تلك الرؤية التي يتحلى بها أي قائد في مكانه ويعلم جيداً وقع افتقار أي كيان نظامي لنظامه، أو أي مجتمع حضاري لاستقراره، أو أي أمة آمنة لأمانها، المقابل لكل هذا هو مصطلح واحد كان يحمل نتيجة واحدة فقط "الهلاك".

ومرت السنون، والاختبارات تتوالى، من كبوة إلى نكبة، ومن نكبة إلى كارثة، والغريب في الأمر أن الأمة المصرية لم تفقد عزيمتها برغم كل مؤشرات وقياسات الرأي العام المجراة من الخارج في إطار المؤامرة المحاكة بدقة، فالمصريين دائماً وأبداً "ليس لهم كتالوج"، وبالتالي فإن حسابات الخارج الذي درس وخطط وقام بالتطبيق لم يكن ليعلم أن "علم نفس المصريين" خارج إطار توقعات أي علم بشري.

فمحاولات الإطاحة بالعلاقة الأبدية بين شعب مصر وجيشه وشرطته لم تجدي نفعاً، ومحاولات طمس الهوية لم تفضِ إلى نتيجة، ومحاولات كسر هيبة مؤسسات الدولة وأجهزتها السيادية باءت بالفشل، وكل محاولات إنهاك الدولة آلت إلى طريق مغلق نهايته مُحَطِمَة للآمال الخبيثة المعقودة.

من هنا كانت تأملاتي المعتادة لكل التفاصيل والمراحل، ومن هنا كان لزاماً التعمق والتدبر والإدراك العميق للعديد من فلسفات الأحداث وخلفياتها شبه المتوقعة في ضوء قراءة المشهد بعين المتأنِ الواعِ، فبعد الاحتفال بالعيد السبعين لعيد الشرطة التي تأتي كل عام احتفالاً وتبجيلاً وتقديراً لبسالة وشجاعة جنود الشرطة المصرية في مواجهة معركة من أشرس معاركها مع جنود الاحتلال السافر، في ملحمة سطّرها التاريخ كأحد الملاحم القتالية شجاعة وإقدام وثبات.

فيأتي أيضاً الاحتفال بانطلاق الملحمة السنوية لمعرض الكتاب، ذلك الحدث الثقافي السنوي ذو الوزن والثقل والوقع في نفوس أمثالي من المتعطشين لشحن هويتهم بجرعات مُعَزِزَة من روافد الثقافة المصرية المختلفة، فهو الحدث الأهم في حياة أجيال عديدة ومنهم جيلي على الأقل من الذين اعتادوا ارتياد ذلك المعرض في منتصف إجازة نصف العام الجامعي أولاً لشراء كتب النصف الثانِ من العام الدراسي، وأيضاً للاطلاع على أحدث إصدارات دور النشر والطباعة من إنجازات أدبية أو علمية أو خلافهما.

كنت قد حضرت آخر دورات معرض الكتاب بأرض المعارض في أعقاب افتتاح الخط الجديد المكيف بمترو مصر الجديدة، وقررت وصديقتي أن أخوض تجربة المترو الجديد من محطة الحرية تجاه محطة أرض المعارض قاصدين زيارة المعرض، وبالطبع زرت جناح وزارة الداخلية لأنه كان لي فيه العديد من الأصدقاء قرناء عمل مشترك من الماضي القريب، تأثرت بهم وتعلمت منهم واحترمت انضباطهم وعلمهم وحرصهم الشديد على التوازن النفسي والمهني واكتساب المهارات برغم أية معوقات، أطلعوني وقتها على مجلد الشهداء، وهو مجلد ضخم للغاية يتم تحديثه سنوياً بإضافة كل أسماء وصور الشهداء ومصابي العمليات، وللأمانة أقول أنه كان منظماً إلى درجة عالية شاملاً التواريخ متسلسلة من الأقدم للأحدث، وتفاصيل عن حادث الاستشهاد أو الإصابة.

ومن جناح وزارة الداخلية، انطلقت إلى داخل جناح وزارة الدفاع الذي يجاوره، وللحظ لم أكن أعلم أي من القائمين عليه غير أنني تشجعت واستفسرت عما إذا كان لديهم مجلداً لشهداء الجيش مسموحاً بعرضه كما في جناح الداخلية، وبالفعل قام الشخص المسؤول بالجناح بعرضه علي، حيث كان ضخماً للغاية إلى الدرجة التي لم يكن لأتمكن من حمله دون مساعدة المسؤول، ومن شدة حرصي على المقارنة بما سبق وشاهدته بجناح الداخلية، ذهبت عيني على التفاصيل والصور والأرقام والتواريخ، وهنا لاحظت أنه في مرحلة تاريخية قديمة ما لم يمكن من تسجيل وحصر كافة أعداد الشهداء أو المفقودين أو المصابين من كثرة عددهم.

وبالتالي فإن المجلد على ضخامته واكتظاظه بالتفاصيل العديدة، لم يحمل معه كافة البطولات وتفاصيل الافتخارات التي قام بها أبطالنا منذ مطلع التاريخ الحديث على أقل تقدير، وهو ما يمكن معه توقع حجم البطولات غير المسجل أو الموثق، إلا أنه في ذات الوقت يحمّلنا مسؤولية إبداء المزيد من مشاعر الامتنان والعرفان والتقدير، فصفة التضحية بالنفس لم تكن قاصرة على جيل مصري بعينه، بل هي عقيدة وقيمة وصفة جينية أصيلة تجري في دماء أجيال المصريين المتواترة دون تعليم مسبق، تلك الفطرة التي خلقهم الله عليها هي ما تجعلهم في أعيننا دائماً حُماة الوطن ورُعاته وأبطاله الخفيون وراء زيهم العسكري والشرطي، ذلك الزي المكسو بالفخر والعزة والافتخار بوطن اختاره لنا خير أمصار الأرض، وارتضاه لنا فوق رؤوسنا جميعاً نحميه ونفدتيه.

كل عام ومصر الكنانة بألف خير وعيد سعيد على جنودها العظماء برغم التزامهم بالاحتفال به من خلال مواقع عملهم.

ودام معرض الكتاب عيداً ثقافيا توعويا وقيمة وفخرا للمصريين جميعهم.