الموت والحياة مرتبطان برباط وثيق، فالموت كامن فى الحياة، وليس تاليًا عليها.
فمنذ الوهلة الأولى التى تطأ فيها قدم الإنسان هذه الدنيا، يشرع فى ممارسة الحياة، وكل لحظة يقضيها حيًا تقربه من قبره خطوة، الموت يسكننا، ويتمدد داخلنا، إنه يترك بصماته علينا فى كل لحظة نحياها، يزحف نحونا بتؤدة ولكن بعزيمة لا تلين. خلايا تموت، وقوى تخور، وشعر يتساقط ويفقد لونه ويصير أبيضًا، كل هذه التحولات وغيرها تحدث يوميًا فى هدوء وسكون دون أن نشعر أن شيئًا ما قد حدث.
نتقبل تلك التحولات والتغيرات التى تطرأ علينا تمامًا كالشجرة التى تتساقط أوراقها رغم أنها تظل ماثلة للعيان حتى تهب عاصفة تقلعها من جذورها، وتلقى بها أرضًا، حينئذ فقط يبدو منظرها قاتمًا يبعث على الكآبة، وتبدو فروعها معروقة عارية، وبذورها نخرة، وأوراقها جافة صفراء، لقد انتهت ولم تَعُد شجرًة، بل أصبحت خشبًا، وهذا ما يحدث حين نشاهد الإنسان وهو يسقط جثة هامدة.
ينطوي الموت على كثير من المفارقات والتناقضات، فهو موضوعٌ بَغِيضٌ، مُنَفِّـرٌ، مُثِيرٌ للفزع لا يُشجِّع على التفكير فيه أو الحديث عنه، والظاهر أن الناس قد فطنوا إلى ذلك منذ القدم، فحرصوا على نسيان الموت أو تناسيه بشتى الطرق.
تقول الأستاذة الدكتورة أمل مبروك أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة ورئيس قسم الفلسفة بآداب عين شمس في كتابها القيم الذي عنوانه (فلسفة الموت): رأى بعض المفكرين أن الحياة ما هي إلا الموت ذاته، لأن الإنسان يشرع في الموت بمجرد أن يولد، ففي اللحظة التي يخرج فيها الإنسان من بطن أمه يكون قد خطى أولى خطواته نحو الموت. والإنسان يعرف إنه لا محالة «ميت»، لكنه لا يحاول أبدًا مواجهة هذه الحقيقة والإقرار بها.
ينزل الإنسان من بطن أمه صارخًا، كأن صرخاته تلك تنم عما سيلاقيه فى حياته من عذاب وألم، إن مشوار الإنسان من الميلاد إلى الموت محفوف بكثير من العقبات والصعاب والمخاطر، وقد يقضى المرء سنوات حياته كلها فى محاولة تذليل تلك العقبات والتغلب على الصعاب، وتفادى المخاطر بقدر الطاقة. قد ينجح فى ذلك أو يفشل، وحتى إذا نجح فإنه يتأمل مسار حياته فيهوله ما قضاه من أعوام طوال فى سبيل تحقيق ذلك، ويدرك بجلاء أن مجمل تلك السنوات التى انقضت هى عمره.
من ناحية أخرى يمكننا القول، إن الحياة مليئة بالمتع والمسرات، وينال كل إنسان نصيبه منها. قد يزيد ما يحصل عليه من متع ومسرات أو ينقص حسب الفروق الفردية والظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل فرد. لكن الآلام الناجمة عن الأمراض، سواء أكانت جسدية أو نفسية، لا ترحم أحدًا.
كل إنسان له منها نصيب، قليل أو كثير، هذا أيضًا يتوقف إما على الظروف الخاصة بكل فرد، أو بسبب مواقف ومسائل لا يملك المرء لها تغييرًا، وهى ما يُطلِق عليها بعض الفلاسفة الوجوديين اسم «المواقف الحدية»، وهى المواقف القصوى التى يجدها الإنسان مفروضة عليه، دون تدخل منه أو إرادة، مواقف لا يستطيع المرء الفكاك منها أو إلغاءها، إنها تحاصره وتصبغ حياته بصبغتها الخاصة.
من هذه المواقف إن الإنسان يُوْلَد ذكرًا أو أنثى منتسبًا لأب وأم معينين، ومنتميًا إلى وطن ما، ومعتنقًا منذ نعومة أظافره دينًا معينًا، دون أخذ رأيه فيه. هذه المواقف النهائية أو «الحدية» مفروضة فرضًا على الإنسان، ولا يملك منها مهربًا. و«الموت» هو أهم هذه المواقف الحدية وأخطرها.
لا ريب أن مشوار الإنسان من الميلاد إلى الموت يختلف عن مسار بقية الكائنات الحية إنَّ ما يميز الإنسان عن تلك الكائنات هو «الوعي»، فالإنسان يدرك أنه ميت، وأن وجوده هو «وجود نهايته الموت». فى حين أن «فكرة الموت» لا ترد على بال «الحصان» أو «الفيل» أو «الأسد» مثلًا، وكذلك سائر الحيوانات لا تفكر فى طبيعة الموت، وماذا بعد الموت؟.. وما الحياة؟ وأين أنا من هذا العالَم؟ وما معنى العالَم؟ وكيف دخلت هذا العالَم؟ ومن الذي ألقى بي فيه وتركني؟ ولماذا لم يستشيرني من أدخلنى إلى العالَم حين أدخلنى إليه؟.. إلى آخر هذه التساؤلات الإنسانية؛ ذلك لأن الحيوانات تفتقر إلى الفكر، ويغيب عنها الوعي بذاتها أو بالآخر.
صحيح أن الحيوان يهرب من الأخطار التى تهدد حياته، ويدافع عن نفسه بشراسة ضد من يحاول قتله أو افتراسه، غير أن ذلك كله يندرج ضمن الدوافع الطبيعية (الغريزية)، ولا يدخل ضمن إطار «الوعي» الذي يتمتع به الكائن البشرى وحده، إن دفاع الحيوان عن حياته يمكن وضعه تحت ما يسمى بغريزة «حب البقاء» أو الحفاظ على «بقاء النوع».
في تجربة الموت يشعر المرء بوجوده الفردي، لأن الفرد يموت وحده، ولا يمكن لأحد من الناس أن يحمل عني عبء الموت، أو أن ينوب عني فيه. فلا أحد يموت بدلًا من أحد، ولما كان الموت يقف بالمرصاد لكل حي، فإن الإنسان يعي على مستوى الإدراك العقلي أن «الموت علينا حق»، ورغم هذا الإدراك فإن المرء على مستوى الشعور والوجدان لا يتصور موته على نحو واضح. فأنا على يقين أن «فلان مات»، و«فلانة ماتت»،.
إن الذين يموتون هم «الآخرون»، لكن لا توجد سابقة واحدة تقول «أنا مات»، وبالتالى لا أتصور موتي. كيف لى أن أتصورني ميتًا؟! كيف يحدث هذا؟ هل أنتهي أنا أيضًا كما انتهى ذلك الإنسان الممدد فى النعش أمامي استعدادًا لدفنه في تلك الحفرة المظلمة (القبر)؟
الموت هو أمر كلي وعام يصيب كل أشكال الحياة، أما إذا نظرت إليه نظرة ذاتية، فلا أتصور موتي أنا.. أنا الذى أفيض حياة وحيوية.. أنا الذى تتأجج بداخلى الشهوات والرغبات.. أنا الذى تتصارع بداخلي الأفكار والآراء.. «أنا مات» كيف أتصور حدوث ذلك؟
الموت يلاحقنا من خلال صور متعددة، فحين يموت صديق أو حبيب أو قريب يعتصرنا الحزن، هذا الحزن ليس مبعثه فقدان إنسان عزيز علينا فحسب، وإنما المصدر الحقيقى لانزعاجنا وحزننا هو أن جزءًا من حياتنا غاب أو مات بموت ذلك الشخص الذى رحل.
لقد ارتبطنا سنوات طوال بذلك الصديق أو الحبيب، وتشكلت حياتنا وفقًا لاعتيادنا على رؤية ذلك الشخص والالتقاء به يوميًا، وبغيابه يغيب ما اعتدنا أن نمارسه فى حياتنا برفقة ذلك الذى مات.
بموت الأحبة يموت ذلك الجزء من حياتنا الذى كان مرتبطًا بهم. وهذا هو مبعث الحزن على فراق من نحب. الدليل على صحة ما نذهب إليه من رأى هو أننا بمرور الوقت تتشكل لدينا عادات يومية لا يحتل فيها ذلك الذى رحل مكانًا، وبالتالى يخف الحزن ويتلاشى شيئًا فشيئًا كلما تباعدت فترة فراق الحبيب!
إن حزننا يكون فى حقيقة الأمر منصبًا بشكل أساسى على فقدان ما اعتدنا أن نمارسه فى حياتنا برفقة ذلك الذي مات، لا على الشخص نفسه، بدليل أنه قد يصل إلى مسامعنا نبأ وفاة شخص لا صلة لنا به من قريب أو بعيد، فنتلقى النبأ دون أن يعترينا الحزن، ودون أن تدمع لنا عين!
حقًا نحن لسنا سوى موتى في إجازة!
دكتور حسين علي أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس