الجمعة 19 ابريل 2024

مقالات2-2-2022 | 13:35

حَتّى إِذا ما توقّدت الشّمس والتَهبت خيوطها المُتَدفقة من بطنِ السّماء، تُزيح عن وجهِ الرَّصيف بقايا نسيم الصُّبح البارد، يَتَهاطل الزُّوارُ من كُلِّ حَدَبٍ، يرمون بعيونهم المُرتَعِشة مبنى مستشفى الصَّدر، افترشَت "حسنية" مكانا صَوب البوابةِ؛ تُطالِع حركتها ، تلتمع حدقتاها في وجهٍ نُحاسيّ كئيب، تمدّ يدها في وهنٍ تُخرِج كِسرةَ خبزٍ لدِنة، وقطعة جبن قديم من بطنِ منديلٍ محلاوي باهت، تمسح فوقَ ظهرِ صغيرها " سيد" الذي تلهّى يلتهم حلواه، ترميه بابتسامةٍ طافت على شفتيها، لتعودَ سريعا تمسح مدخل المستشفى الذي بدأ يستقبل زواره.

مُنذ اعتلّت صحة "سعداوي" ونفدَ السُّل لصدرهِ، ليؤتي على البقيةِ الباقية من عافيتهِ، وهو يُلازمُ سريره في " عنبر 12"، قال الأطباءُ: "إنّ حالته مُتأخِّرة، ولابُدّ لهُ من رعايةٍ"، في السَّابقِ لم تُفلِح معه نصائحهم، يضرب كرباجه الطويل وجهَ الهواء مُنفعلا، قائلا في ثورة: "هو أنا مكسّح علشان اتحجز!"، يشغله أمر أسرته، لا عائل لهذه الحُنوك إلّا ما يرجع بهِ من قروشِ شقاء يومٍ كامل فوق َ ظهرِ "الحنطور"، بطلت هذه الأيام موضة "الحناطير"، بعدما امتلأت الشوارع بالعرباتِ الحديثة، نصحته زوجته ألفَ مرةٍ؛ أن يبحثَ لنفسهِ عن مصدر رزقٍ جديد، كانَ يَهبّ فيها مثل "وابور الجاز" مُلتهبا: "دي مهنة البهوات يا جاهلة، وكار ناسي"، ظَلّ في عنادهِ القديم، حتّى داهمته مَتاعب المرض يستنفد عمره رويدا رويدا، تناثرت شكواه من أعباءِ المعيشة، حتّى حصانه الوفي باتَ رهن الهلاك، لم يكن "عبدالهادي" بالمُقامرِ الذي يَقتَحم فِجَاج الأرضَ يلتقطَ من أقواتها فما كانَ لهُ أن يفزَع لما يفزَع إليهِ النّاس، حتى كانَ ذاتَ أصيلٍ وقفَ إلى جوارِ عربته، يُنازِعَ آلامَا مبرحة، شاعت في صدرهِ كَكراتِ اللَّهب، هدأت بعد سعالٍ خانق أنفاسه، دارت الدنيا من حولهِ وهو يبهتُ في يدهِ المُلطَّخةُ بدمٍ غليظ، وبعد عناءِ يومٍ كامل قضاه أمام شباك التّذاكرِ، قرّر الطبيب احتجازه حتّى يتعافى، تلقّت "سعدية" الفاجعة مولولة، فهي تعلم من حالهِ ما غابَ عنه، ومن دنياها ما يغيب عن النّاسِ، لكنّها تَعقد الأملَ في غدٍ يأتي، يرجع فيهِ رجلها بيته، تُطَالِعُ كُلّ زيارةٍ وجهَ المريض المزدول، ولونه الشّاحب المبدول، ولهاث صدره المُتَسارِع، ونخامته بالدّمِ، ووجوه المرضى الكالحة من حولهِ، بأنينهم المتواصل، تُقلِّبهم أيادي الممرضات كالموتى، وجلجلة ضحكاتهن تَهزّ العنبر؛ فينقبض صدرها ، فَوق الرّصيف تسترجع ذاكرتها تعتصر ماضيها، مُذّ أتى بها "عبدالهادي" مِنْ قريتهم ابنة العاشرة لم تجد يوما هانئا، لم تجد من معسولِ حكايات البنات عند الموردةِ عن البَندرِ، ورغيف القمح الساخن إلّا الضنك ومرّ الأقدار، مصمصت شفتيها في استسلامٍ وهي تلُملِم أسمال أولادها المُلقاة في فوضى لتعودَ للبيتِ، كانَ "جلجل" الحصان المسكين يَلوك خطامه، ما إن فتحت باب حظيرته حتّى أطلقَ صهيله الموجع، نظرة تأنيبٍ بعدما فعلَ الجوع فيهِ ما فعل، أنساها مرض "عبدالهادي" أمره، طالت رقدة المريض، وفي كُلّ مرةٍ تودِّعه وداعا ليس من ورائهِ عودة تُرتجى، مع المساءِ تحتضنُ "نفيسة" آخر العنقود، هي دائمة السؤال عن والدها، ما إن تُبصِرَ أصابعَ الفجر تنفلت من زَوائبِ الليل السّوداء، مُعلنةً انبلاج النّهار، حتّى تُبادِر بالذهابِ للمستشفى، تقف أمامها وقفة الوثني أمام صنمهِ، تقضي ساعاتها في أحاديثٍ عِمادها التّرفيه؛ علّ المريض يَنسى كبوته، أتت يدها على متاعِ البيت، ومن قبلهِ "جلجل" رحمةً بهِ من موتٍ محتوم، بدأ "عبدالهادي" ينشط من عقالهِ، لطّخت العافيةُ وجنتيه قليلا، سكنَ أزيز صدرهِ، وتوقّف مقذوف فمه، بعدما اعتدلَ ميزان النّهار، كَتَبَ الطبيبُ المُعالِجُ تصريحا بالخروجِ، انفلت من البوابةِ مُستندا بينَ ذراعين، ليجدَها في استقبالهِ، غَمرها بينَ ذراعيهِ في اشتياقٍ، انثنت خَجَلا وهي تُردِّد مستحية: "ألف بركة ياخويا، رجعتك يوم عيد"، عادوا جميعا للبيتِ، إلى دوامة الحياة، تُغرِيهم بالأماني كغيرهم؛ حتّى يَستَرِدّ الله وديعته.