الأحد 5 مايو 2024

حديث النفس.. الدائرة

مقالات3-2-2022 | 11:08

ينكسر الزجاج.. نحاول أن يعاد.. أحلام تهدم.. نحاول الركض.. صعود وهبوط.. ذهاب وإياب.. إنه هذا وذاك.. هنا وهناك.. إنه الشيء واللاشيء.. نسعى.. نحلم.. نصل فنعود.. وقد لا نصل لكن لابد أن نعود.. هي الدائرة المغلقة التى نحيا فيها.. موعد خروجنا منها محدد حتى وإن حاولنا القفز الذي لا يحمد عقباه.. أو حتى التسلل الذي يجعلنا متوجسين من الإمساك بنا لإعادتنا مرة أخرى في هروب محكوم عليه بالعودة الإجبارية.. فلم يحن موعد خروجنا بعد والمفتاح ليس معنا.. هي حياتنا بما تحويها من خطوات نعاود فيها الرجوع مرات عديدة وكأنها نهايات لنكتشف أنها نفس البدايات بمسميات مختلفة!! 

نحيا في دوائر متماسة.. متشابكة.. متقاطعة.. وقد يحاط بها أخرى متناثرة متباعدة لم تجد ما يجعلها تلتقي وتتقاطع.. ربما في التباعد مكسب أو خسارة.. دوائر تحوي كل الأشخاص والأشياء.... تدفع بعضها بعضا.. دوائر غنية وأخرى فقيرة هشة.. ودوائر قوية منظمة.. وأخرى عشوائية.. بعضها يحمل التناغم والآخر يحمل التنافر.. فنندهش من التشابه الذي يجمع أعضائها.. ونندهش من بروز الناشز منها ليظل قدره أنه لا يشبههم.. فيخلق الاختلاف فيه ميزة سرعان ما تزول لعوامل المجموع التي ترفض كل متغير عنها الذي قد يخرج أو يطرد من دائرتهم، قد يذهب لشبيهه.. وقد يحيا حياته كلها فلا يجدها ليرحل لدائرة الموتى ولسان حاله لا أجد من يشبهني أو تسكن روحي إليه.. قد يحيا معذب وقد يحيا سعيد لأنه رفض أن يكون مثل القطيع.. لكن وجوده قدري لا أحد صاحب الفضل في إيجاده. 

وجودنا فى الدوائر هى رحلتنا التى كتبت علينا.. نتواجد داخلها حتى ولو تمردنا عليها فلابد أن نعود إليها.. فما طار طير وإرتفع إلا و كما طار وقع.. وقد يفضى فى النهاية إلى رحلة اللاشيء.. سواء حكمنا نحن بأنفسنا على وضعنا وحياتنا داخل الدائرة أو حكم علينا أعضاؤها أو حتى أحد من خارجها.. فليست كل الأحكام صائبة ترى الحقيقة.. حتى الحقيقة نسبية من منظورك ومنظور الآخرين. 

ولماذا نستمر فى التواجد داخل دوائر تحكم علينا برحلة اللاشيء أو حتى شيء لا يشبهنا؟! لأن وجودنا فيها هو ضريبة البقاء التى قد تدفعنا عوامل الحياة لأن ننتقل لأخرى تحقق ذواتنا... وفى الحقيقة لسنا كلنا على نفس القدر من الرغبة فى تحقيق قيمتنا أو حتى أهداف تجعل من حياتنا قيمة وهدف عظيم أو حتى جيد نشعر معه بسعادة الرضا عن الذات.. 

وقد نحيا حياتنا كعابرى سبيل تحركنا الظروف والأحداث فنرضى بالقليل أو حتى الأدنى من القليل.. فقد نحيا على الكفاف.. نخشى المواجهات وربما المعارك والصخب الذى يرتفع ويحتد صوته فى التزاحم على الموارد التى تتسم بالندرة.. وقد نأخذ من الحياة الاعتيادى منها.. فتجد معظمنا لا يفكر سوى فى ميلاد.. زواج.. أولاد.. وأخيرا الذهاب للقبور.. معذرة القبور خارج الدوائر فلا زحام أو تعالى أو تكبر أو تفاخر.. الكل واحد أمام لباس الموت الشرعى لذلك تجد القبور على أطراف الدوائر فى أماكن بعيدة نائية ولم يحدث فى أى وقت أن تحركت من أماكنها، بل الدوائر البشرية بمعطياتها وأشيائها هى من تزاحم أصحاب القبور حتى فى سكينتهم.

وعودة مرة أخرى لحياة أصحاب الدوائر.. داخلها لا مفر من المسير ولا عذر للاستكان.. تحركنا رغباتنا وأطماعنا.. الأحمق فقط من يفقد وجهة المسير فتتقاذفه محتويات الدوائر.. فلا عذر لمن عطلته منحيات الدوائر وإلا أصبح عنوانها التيه!!

ونمضي ونمضي.. منا من يتمرد على أعضاء دائرته.. ويتطلع لمن يراهم أرقى وأفضل منهم فى دوائر أخرى لا يدخلها إلا  بشروطهم، وتراه يوافق عليها مهما كانت قاسية فيتجرد من ذاتيته ليلتحق بهم.. لكن أصله وفصله يستمران معه فى ملاحقته مهما حاول التنصل ورسم صورة جديدة لنفسه وحتى الآخرون ممن يحملون ذاكرة فولاذية يذكرونه دائمًا أنه نازح وصاحب هجرة غير شرعية حتى ولو غير بطاقة هويته وأصبحت تحمل عنوان الدائرة الجديدة.. فيصبح منبوذا من داخل نفسه وقد يرتدى قناعا غير مريح يظل يتحين فرصة التحرر من قيوده بعيدا عن أعين الآخرين.

وقد ننتظر الخروج من الدوائر بدعوى أنها فرضت علينا بعدما ذهبت عنا أشياء تمسكنا بها وأصبحت موجودة داخل دوائر أخرى.. وربما لو عقلنا جيدا لعلمنا أنها كانت ستذهب عنا مهما تمسكنا بها وما أضعنا أعمارنا انتظارا للخروج منها. نسينا أن كل شيء لزوال وأنت نفسك لزوال.. وعليك أن تتعلم أصول اللعبة.... نحصل.. نفقد.. نتطلع لغيرها حتى تنتهى حياتك.

ونتساءل هل أصحاب الدوائر لا يلتقون أبدا؟! هذا سؤال من السذاجة إطلاقه.. طالما أننا نمضى فى طرق متقاطعة لأسباب عديدة لابد من نقاط التقاء رغم وجود دوائر غير متجانسة لكننا جميعا نسير فى نفس الطريق.. هكذا نلتقى أثناء سيرنا وربما فى نهاية الطريق لنرسم جميعا الصباحات والأمسيات فى لقاءات نحن من منحناها هذه المسميات.. لقاء.. فرحيل.. فلقاء!! 

وفى الدوائر قد نبحث عن أرض الفضائل والأحلام غير الموجودة لأنها دوائر بشرية تقترب من سمات أخلاقية فى أعلى مراتبها وربما تنحط فى سمات أخري.. ونبحث عن التعافى من صدمات تواجهنا.. قد تكون خير لنا لأنها جعلتنا نعود للوراء مرة أخرى داخل الدائرة.. فما نلبث أن نخرج ونسير حتى نعود.. وقد نتوه وقد نلتقى بما أردنا.. كل حسب ما يتسلط عليه من عقله أو أهوائه.. ليصبح لسان حالنا.. نتوه.. نلتقي.. نرحل.. هى معطيات واقع الدوائر.. لا مفر من التعامل معها فهى نفس معطيات حياتك التى تعيش فيها والتى ربما ارتقيت لتنتقى ما يعيش فى نفسك.

والسؤال هل نكره دوائرنا أم موقعنا منها؟! فى الحقيقة أننا نكره موقعنا فيها الذى لا يحقق السعادة التى نبحث عنها وقد تكون الدائرة فى مجملها غير كافية لتحقيق طموحنا لكننا نفشل فى تغييرها لأنها فى مجملها قدرية.. 

وقد تتملكنا فكرة الانتظار للتغيير.. لكنها فكرة عبثية.. فالدوائر تتحرك وتدور وتلقى خارجها من أرادت دون استئذان.... لعوامل إعادة الهيكلة فتمتثل لأمر الموت.. ليفرغ مكان ليحل محله آخر.. فتوهم نفسك بالانتظار أملا فى تغيير وضعك داخلها ربما لعوامل تحركها الذاتى وتتصور أنه سيأتى عليك يوما تغير موقعك بفعل دفع عناصرها لبعضها البعض.. فتثبت مكانك وتشاهد العالم من حولك يتحرك.. لكنها خدعة كل خامل!!

والسؤال ماذا يحاصر دوائرنا؟ فى العادة دوائر أو أمور على شكل دوائر.. قد تكون سجونا لدوائرنا.. وقد نكون نحن كذلك لها.. قد تكون أمورا ساكنة ثابتة فى الكون، ولكنها أسوأ مايحاط بنا لأن قوتها غالبًا أقوى منا.. فماذا عسانا أن نفعل؟! فى العادة نحاول أن نستأنسها أو قد نتجاهلها طالما أنها ساكنة.. لكنه التغفيل الذى افترض أن سكونها دائم فنحن معرضون لزلازل وبراكين ومد وجزر وسيول وعواصف.. لا شيء ساكن أبدا.

وفى داخل الدوائر أناس تحركهم المخاوف فتعمل على دفعها بسلوكيات متعددة بعضها عاقل وآخر غير ذلك.. إنه تدافع البشر الذى يغير ويغير من طبيعة الدوائر وقد يجعل من بداخلها مصاب بالدوار من رحلة اللف والدوران.. فتجدهم يتفاعلون.. يتصالحون.. يتنازعون.. لكل منهم وجهته ولا أحد يتوقف فقوة الدفع حتما تدفعه للمسير شرط أن يعود.. فيرهقنا الدوار.. بعضنا يعاند والآخر يستسلم.. لكن لا قاهر له فهو المكتوب على جبين الكل.

فمنا من ينخدع فى تحرك دائرته ببطء أو حتى بسرعة فيجد فيها السعادة.. ويستمر هكذا حتى تحدث المفاجأة.. ما هذا !! إنه صوت الارتطام.... الذى يعوى ويصرخ كل من يشعر به.. ما هذا؟! زلزال أم هزة!! إنه الحدث لتغيير شكل الدوائر!! لتقول لمن حان موعد طرده.. إخرج.. رضيت أم أبيت فقد جاء وقت دخول غيرك.. دائرة التراب تنتظرك.. وحينها لا يهم من أى نقطة تخرج من مركزها أو من هامشها.. 

ويبقى لك ألا تتوهم أنك كنت مؤثرا فى قوتها أو حتى فى ضعفها.. فقد خدعنا أنفسنا أن الدائرة ستتوقف برحيلنا.. لتصبح رحلتنا التى امتلكنا فيها واقعا أهدرناه ومضى ماضيا لم نتمكن من السيطرة عليه.. انحصرت فيها أعمالنا فى مركزها وقوتها وسلطتها.. ونسينا أنه لا أحد يحركها أو حتى يتحكم فيها.. تتحرك من تلقاء نفسها ونحن من ندور فى فلكها.. نتعب ولا نستطيع أن نستكين.. نرحل ويحل محلنا من يدور ويدور.. لنكتشف أننا ما كنا فيها سوى عابرى سبيل تحركه عوامل الحياة .