الخميس 25 ابريل 2024

عن ترجمة شعر «أندريه شديد»

مقالات8-2-2022 | 12:32

كلّما أكتبني،

كلّما اكتشف بعضا منّي

فأبحث فيّ عن الآخر

ألمح في المدى، المرأة الّتي كنت..

أدرك حركاتها..

أتجاوز أخطاءها..

ألج إلى داخل..

وعي غائب أستكشف نظرته

المعتّمة كلياليه..

أقتفي وأعرّي

أثر سماء بلا جواب ولا صوت

أقتحم مجالات أخرى..

أبتكر لغتي..

فأهرب إلى الشّعر.

ولدت أندريه شديد فى القاهرة بمصر فى ٢٠ مارس ١٩٢٠، ثالوث عجيب من بلدان النشأة والطفولة؛ فعائلة أبيها من بعبدا فى لبنان، وعائلة أمها من دمشق فى سوريا والنشأة في مصر.

لا تعرف أندريه شديد الحدود بين البلدان، حيث تقول فى أحد مصنفاتها الشعرية: «إنني أنتمى إلى بلد بلا علم وبلا حبال تربطني»، أقامت أندريه شديد فى باريس منذ عام ١٩٤٦ وكانت هي أرضها الرابعة فعشقت وتبنت اللغة الفرنسية، وعلى الرغم من الشهرة التى حازتها فى فرنسا، والتى هاجرت إليها لتنضم إلى طائفة من كتاب الفرانكفونية ذوي الأصل المصرى أمثال "ألبير قصيري وروبير سوليه وجيلبرت سينويه"، فإنها كانت أقلهم حظًا فيما يخص معرفة الجمهور المصرى بها ؛ولا ندري السبب ليومنا هذا؟،وعلى الرغم من ابتعادها الطويل عن مصر، فإنها ظلت تكتب عنها وعن تاريخها.

 واحتفظت فى كتاباتها بمصريتها، كتبت «شديد» عن ملوك مصر القديمة، وخصت بالمجد "إخناتون وكليوباترا"، ليس فقط لتثير اهتمام الفرنسيين؛ وإنما لترتبط بالبلد الذي ولدت فيه؛ فقد كان قلبها وعيناها وأذناها مع مصر، كما يقول أنيس منصور، الذي أرّخ رحلة خروجها.

ومنذ أن هاجرت أرادت أن تكون مثالًا للمواطنة العالمية التى لا تعرف حدودًا فى الجغرافيا ولا بين الأجناس الأدبية التى كتبت فيها كلها، فقد كتبت المسرح والرواية والشعر، وعقب وفاتها نمت حركة ترجمة أعمالها التى صدرت عن المركز القومى للترجمة فى مصر، و"دار الهلال" وسلسلة إبداعات عالمية بالكويت، وإضافة لأعمالها الشعرية الثرية.

وبالنظر للشعر عند شديد ومُعضلة ترجمته للعربية؛ نجد أنه قد حير العديد من مُتمرسي الترجمة؛ فكل قصيدة حالة ولكل حالة ذائقة ولكل ذائقة إبداع مزدوج بروح "أندريه شديد" وبأحرف مُترجم لابد أن يكون من كَتيبة المُبدعين الخلّاقين؛ فلا زيادة على شعرها ولا تخفيف منه عن عمد، بل تُترَك الأحرف تنساب والمشاعر تتدفق؛ وهذا يعود الى أن التركيب في شعرها يستند إلى مواد غزيرة في مُنطلقها وشديدة الحذف في حاصلها، وهو ما جعل العبارة الشعرية محدودة العدد وقوية الدلالة، أشبه بفسيفساء دقيقة  ذات احتمالات تركيب وتعيين في المكان، عديدة ومتنوعة وغنية.

 هذا لا يعني أن شعرها ينهل من المَعين الفكري أو الذهني، بل من «تحققات» تلحظها الحواس الخمس أحياناً، تحققات تؤدي إليها اعتقالات الذات في المشاهد البشرية يومياً وفي حركاتها المستديمة والمتتابعة، هكذا نراها تتوقف عند «المدن» أو عند "الطعوم" وعند موضوعات يمكن لنا أن نعتبرها موضوعات مُدبرة ومُختارة للمعالجة والصياغة، إلا أننا نتحقق في حصيلة القصيدة  الشعرية مما تحمله وتعرضه من كونها قد نهلت من معين مشاهداتها وانفعالاتها ومما جرى في هذه اللحظة أو في سابقاتها، بل يبدو لنا أن قراءة شعرها والقيام بترجمته يوضحان لنا حقيقة التركيب الشديد الذي تقوم عليه القصيدة، والذي يخفي غالباً العمليات العديدة التي قامت عليها توليدات القصيدة وتدفقاتها وعروضاتها، كما توضح لنا قراءة شعرها وترجمته أن التركيب ذي البناء التجريدي في الغالب أو الذي لا تتضح مشهديته التامة في قصائدها؛ يخفي في الطرق المختصرة، طرق التركيب والتكثيف التي انتهت إليها معالجات الشاعرة لشعرها في معملها، فنجد مزيج من المعاينات والمعايشات الحسية الحارة ومردودات التجربة.

وهو ما نلقبه بمفهوم "التوسط" لا الترجمة، ويعني «التوسط» إنهاء علاقة  النص الأول بالثاني، والأصل بالموازي، وأن نعتبر النصين متوازنين ومستقلين في آن واحد، والتوسط في هذه الحال يعني الانفصال والاتصال معاً، على أن الاتصال هنا يتخذ شكلاً وحيداً؛ وهو انتقال النص من لغة باتجاه لغة أخرى، أي لا ينتقل بل يتجه، وهو يصل من دون أن يحل في عين المكان، بل فيه وخارجه في وقت واحد، وهذا يعني أن علينا أن ننظر إلى النص الذي نترجمه على أنه تحقق نصي للممكنات الموجودة في اللغة؛ ما يدعو المترجم الى دراسة هذه الممكنات في لغة الاستقبال؛ وهذا يؤدي أحياناً كما يحدث لبعض المترجمين إلى أن يكون النص المستقبل أبلغ وأجمل وأكثر تمكنا ًفي مجموعه وفي بعضه، مما هو عليه النص الذي نترجمه.

ونكون بذلك قد غيرنا نظرية الترجمة التقليدية، ولم يعد التباين قائماً على الأمانة في النقل، بل على التفاضل بين الممكنات التعبيرية؛ ووفق هذا المنظور تصبح الترجمة أقرب الى التأليف منها إلى النقل، ويدخل نقد الترجمة، وفق مُقتضيات هذه النظرية الجديدة.

أسهمت تلك المبدعة المصرية الفرنكوفونية بكنوز لم تُكتشف حتى الآن؛ لذا فمقالي دعوة لمحترفي الترجمة للغوص في بحر "أندريه شديد" والبحث عن جواهر إبداعية نادرة؛ ولنترحم على تلك المُتفردة في شهر رحيلها يوم السادس من فبراير.

Dr.Randa
Dr.Radwa