ماذا يفعل المرء عندما يكتشف نصًا شعريًا بديعًا ومدهشًا؟ ليست بكارة الفكرة وحدها هي التي تصنع النص، إنها مجموعة من العناصر الجمالية التي تتحد سويًا لتقدم لنا كأسًا من السكر الروحى يشعر المرء معه وكأنها السقيا التي لا ظمأ بعدها أبدًا، هذا النص الذي أشارككم اليوم جعلنى عالقًا بين السماء والأرض، كملاك منتشي، وكإنسان مندهش، نص قادم من كون غير الذي نسكنه، ومن لغة تغلبت على اللغة ذاتها ببساطتها! يبدو أنه قد حان الوقت الاعتذار إلى قصيدة النثر التي كنت لا أوليها اهتمامًا كافيًا حتى وإن جاء الاعتذار متأخرًا.
قصيدة " طردونى من العمل" للشاعر المصرى محمد إبراهيم القلينى، والذي أصدر ديوانين سابقين، الأول بعنوان "أركض طاويا العالم تحت إبطى" عن دار العين عام 2016، والديوان الثانى بعنوان" سقط شيء من شيء" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2018. ولا أجد شيئًا يمكننى قوله سوى نشر ذلك النص البديع آملًا الاستمتاع به.
طَرَدوني مِنَ العَمَلِ
طَرَدوني مِنَ العَمَلِ
وقالوا: اذهَبْ
واعمَلْ عِندَ الله.
وها أنا يا رَبِّ
مُحمَّد إبراهيم القِلّيني
أربعةٌ وثلاثونَ عامًا
مُتَزَوِّجٌ
وأَعُولُ طِفلَينِ
وأرغَبُ في العَمَلِ لدَيك.
أنا أُجيدُ كَثيرًا مِنَ المهاراتِ
كالطَّبخِ مَثَلًا..
لذَلِكَ يُمكِنُني أن أعمَلَ لدَيكَ طَبّاخًا
أقطِفُ نَجمَتَينِ وأعجِنُهُما جَيِّدًا
وأُضيفُ إلَيهِما ماءَ سَحابةٍ عَذبة.
ثُمَّ إنَّني صَبورٌ جِدًّا
ويُمكِنُني الِانتِظارُ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ
وتَقومَ بتَسوِيةِ العَجين
سَأحمِلُ الطَّعامَ بنَفسي
وأطوفُ على الفُقَراءِ الذينَ نامُوا بلا عَشاءٍ
وأضَعُ الكثيرَ مِنهُ
على وسائدِهم المُبَقَّعةِ بالخَيبات.
قبلَ طَردي كُنتُ أحمِلُ البَضائعَ
وأنقُلُها إلى المَخازِنِ الواسِعةِ
فلماذا لا تُوَظِّفُني لدَيكَ شيّالًا؟
سَوفَ أحمِلُ السُّحُبَ على كَتِفي
وأُظَلِّلُ بها رُؤوسَ الأرامِلِ
اللواتي يَبِعنَ الخُضارَ في شَوارِعِ مَدينَتِنا.
أنا قوِيٌّ يا أللهُ
يُمكِنُني أن أحمِلَ جَبَلًا عظيماً
لأُثبِّتَ بهِ قلبَ امرأةٍ غَرِقَ وَلَدُها
وهوَ يُحاوِلُ الوُصولَ إلى أحلامِهِ
التي تنتَظِرُهُ على الجانِبِ الآخَرِ مِن البَحر.
ثُمَّ إنَّني أُجيدُ التَّفاوُضَ
ولَدَيَّ مَهارةُ عَقدِ الصَّفَقاتِ
مِمّا يؤَهِّلُني لإقناعِ الشَّيطانِ
بأن يُكَفِّرَ عَن ذَنبِهِ ويَسجُدَ لَك
رُبَّما بِهذا يَدخُلُ كُلُّ البَشَرِ الجَنّة.
أنا أخافُ من النّارَ
مُنذُ أنِ احتَرَقَ قَلبُ أبِي
وهُو يبحَثُ عَن رَغيفٍ لطِفلِهِ الجائع
أطعَمُوني بَعدَها آلافَ الأرغِفةِ
لكِنّي ما زِلتُ جائعًا يا ألله.
في الأعيادِ
أنفُخُ (البَلالينَ) لطِفلَيَّ
فهل يؤَهِّلِنُي ذلِكَ للعَمَلِ لديك
كنافِخِ بوقٍ؟
سأكونُ رَقيقًا جِدًّا
وسأنفُخُ ببُطْءٍ
ولن أُرهِبَ المَوتَى إذ يقومونَ معَ النَّفخ
بل رُبَّما أستَبدِلُ النّايَ بالبُوقِ
وأعزِفُ لَهُم ألحانًا مُبهِجة.
آه.. نسيتُ أن أخبركَ
أنا أُجيدُ الكِتابةَ
وأُفَكِّرُ في أن أعمَلَ كمَلاكٍ
يُسَجِّلُ كل ما يفعله رجُلٍ ما
اختَر لي رَجُلًا يا رَبِّ
شَريطةَ أن يكونَ غَنِيًّا
سأجلِسُ فَوقَ كَتِفِهِ الأيسر
وأسجل كل سيئاته
أريدُ أن أذهَبُ مَعَهُ إلى الفَنادِقِ الفاخِرة
وأكتُبُ في سِجِلِّهِ: أنَّهُ يُضاجِعُ امرَأةً بَيضاءَ
شَعرُها أسوَدُ
وعَيناها عَسَلِيّتانِ
وجَسَدُها لَيِّنٌ مِثلَ الإسفَنجِ
ولديها كَومةٌ مِنَ الأطفالِ الجَوعَى
يلعبون في حي شعبي
ريثما تعود إليهم بالطعام.
أُريدُ أن أذهَبَ مَعَهُ إلى حانةٍ
أنا لا أشرَبُ الخَمرَ يا أللهُ
فنَحنُ -الفُقَراءَ- نَسكَرُ مِن مشاكلنا
لكنّي أُريدُ أن أعرِفَ
كَيفَ يَسكَرُ الأغنياء؟
كثيرًا ما قَلَّمْتُ أظافِرِي
فلِماذا لا تُجَرِّبُني في تقليمِ أظافِرِ الشَّمسِ؟
لقَد طالَت يا الله
لدَرَجةِ أنها تَغرِسُها في رُؤوسِ العُمّالِ
الذين يَعمَلونَ في المصانع البعيدة
العامِلُ مِن هَؤلاءِ
يَعودُ إلى بَيتِهِ بِرَأسٍ مُتَوَرِّمٍ
بَينَما أصحابُ المَصانِعِ
يُحصُونَ أرباحَهُم في المَكاتِبِ المُكَيَّفة.
لقَد طَرَدوني يا أللهُ
وها أنا ذا
مُحَمَّد إبراهيم القِلّيني
أربعةٌ وثلاثونَ عامًا
مُتَزَوِّجٌ
وأَعولُ طِفلَينِ
وعاطِلٌ عنِ العَمَلِ
فهل لدَيكَ وَظيفةٌ لي؟