السبت 18 مايو 2024

"أزمنة" الرواية!

حسين حمودة

ثقافة11-2-2022 | 18:18

حسين حمودة

من بين النتاج الغزير، الثري للدكتور جابر عصفور، ذاعت ـ حتى الآن ـ كتابات دون كتابات، وشهرت كتب دون أخرى، وربما انتشرت مقولات جزئية، بعينها، على حساب تصورات كاملة وسياقات متكاملة، ولعل أشهر مقولاته التى كتب لها الذيوع والانتشار تمثلت فى "زمن الرواية" التى تحولت، فى عمل الدكتور جابر، من عبارة محددة محدودة، إلى فكرة محورية فى "مفتتح" استهل به أحد أعداد مجلة "فصول" عندما كان يرأس تحريرها، ثم إلى منطلق أساسي فى كتاب منشور كانت هذه العبارة عنوانًا له. 

**
بجانب هذا الانتقال على مستوى "تحرير" و"بلورة" فكرة زمن الرواية؛ كان هناك انتقال آخر على مستوى "تلقي" هذه الفكرة وعلى مستوى تأثيرها؛ فبعد أن كانت فى البداية تعبيرا عن وضع جديد لاحظ د. جابر عصفور أنه أصبح قائما فى الأدب العربي المعاصر، أعيد خلاله ترتيب البيت، أو حل معه ترتيب جديد بين "أنواع" هذا الأدب، ارتحلت الفكرة من حيز هذا التوصيف النقدى، الهادئ المحايد، إلى نطاق السجال الملتهب، واقترنت قراءاتها بطرائق من التأويل رأت فيها "زحزحة" ـ وربما "نفيا" ـ للنوع الأدبي الذى ظل فن العربية الأول لقرون طويلة ممتدة؛ أي الشعر. 


وفى واقع ثقافى اعتاد لزمن طويل، عبر فترات متعددة من تاريخه، أن يتغذى على "المعارك الأدبية" (وقد آتى أحيانا بعض تلك المعارك الأدبية ـ التى اتسم أغلبها بالجدية ـ ثمارًا طيبة جدا) كان من الطبيعى أن تنتقل أبعاد فكرة "زمن الرواية" لتتجسد فى مشهد مكتمل المعالم: "ساحة قتال"، و"اقتتال"، و"أطراف" تخوض معركة حقيقية؛ يكاد أحيانا لا ينقصها، عند البعض، الرغبة فى "المسك بالتلابيب" والتضارب باللكمات مع التراشق بالكلمات، وهكذا وجد "ضالتهم الشاردة"، أخيرا، كل أولئك الذين تشبع وجدانهم الثقافى بتقاليد السجال والحجاج والمجادلة والعراك، وترسخت فى أعماقهم روح "الهجوم/الدفاع" معا، بعد فترة من "سكون ثقافى"، طالت وامتدت، ولعلها تمطت، منذ آخر معركة أدبية كبيرة مشهودة (هى، على الأرجح، المعركة التى ارتبطت باسم طه حسين والعقاد، وباسم محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، وتبلورت فى كتاب الأخيرين المشترك "فى الثقافة المصرية"، حوالى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين). 
وربما كان ذلك السكون الذى امتد، خلال العقود التى تلت الخمسينيات، نتيجة لسياسات ثقافية عامة غاب فيها مناخ التعدد الذى يسمح بالحوار والمناقشة، فضلا عن السماح بوجود هامش كاف للاختلاف فى الآراء، وبهذا المعنى، كان العراك حول فكرة "زمن الرواية"، فى جانب منه، تعبيرا عن التوق للعودة إلى روح قديمة استكانت أو أجبرت على الاستكانة، استنامت أو اقتيدت إلى الاستنامة، فاستراحت إلى هدوء ودعة، ولاح أنها أمعنت في ذلك كله إلى درجة الغفوة المطمئنة الثقيلة. 
وقد كانت هذه العودة "صحية" بأكثر من معنى؛ صحية لأنها حركت الماء الذى كاد يأسن من كثرة ركوده، وصحية لأنها لفتت الانتباه إلى "وضع" جديد فى الأدب العربى المعاصر بات من غير اللائق تجاهله، بل أصبح من الواجب ملاحظته وتقصى ملامحه، وصحية لأنها كشفت عن أن هناك إمكانا متاحا لطرح مواقف وآراء متباينة، من مواقع متباينة، على مستوى الأدب وغير الأدب، بما يكشف عن ضرورة "تمثيل" هذا التعدد كله، فى مختلف مجالات الحياة، بعد سيادة، أو تسييد، الموقف الواحد والرأى الواحد، لعقود عدة.
**
كان لـ"السياق"، الثقافى وغير الثقافي، دور كبير فى إذكاء حماس المعركة ثم فى تأجيج لهيبها، وتمثل جانب كبير من هذا الدور فى إلقاء مواد مشتعلة حول قول نقدي لم يكن يتغيا سوى وجه الحقيقة وحده ووحدها. 
فى تفاصيل هذا القول النقدى نفسه ما يشير إلى أنه لم يكن مفاجئا تماما، إذ كان د. جابر عصفور قد استدعى، أو استعاد، سجالا قديما دار حول الفكرة نفسها، أو حام قريبا منها، يرجع إلى فترة الأربعينيات؛ عندما واجه نجيب محفوظ "الحكم" ـ أم أقول: "الفرمان"؟! ـ الذى أصدره عباس العقاد على الرواية؛ الذى لم يخل من جور كبير إزاء هذا النوع الأدبى الذى كان صعوده وازدهاره واضحين فى الأدب العربى حتى فى تلك الفترة المبكرة نسبيا. 
قال العقاد قولا باترا: إن الرواية مثل "الخرنوب" "الذى فيه قنطار خشب ودرهم حلاوة"، ورأى نجيب محفوظ فيها "شعر الدنيا الحديثة"، أى البديل الأدبى الجديد الذى يمكن أن ينهض فى العصر الحديث بالدور الذى نهض به الشعر الذى ظل "ديوان العرب"، طيلة عصور قديمة ممتدة (وقد عرض الدكتور جابر عصفور لهذا السجال بالتفصيل فى بعض مقالاته بجريدة "الحياة")؛ ولكن ذلك السجال المبكر ظل محدودًا أو "ملموما"؛ لم يتخط نطاق مقارعة الحجة بالحجة إلى حيز الاشتعال، وتقريبا لم يجاوز دائرة محددة أحاطت شخصيات بأعيانها، وهذا ما لم تكتف به مقولة "زمن الرواية" التى وجدت فى مناخ استقبالها ما يساعد على انتشارها واتساع وتوتر الدوائر من حولها؛ وما يعمل على الدفاع عنها وتأكيدها، من جانب، وتفنيدها والسعى لدحضها، من جانب آخر. وبين الجانبين، القائل بالتأكيد والقائل بالتفنيد، وجدت هذه المقولة "آذانا صاغية"، كما يقال، وأفواها وأقلاما مستعدة، مشهرة كالأسلحة، وطاقة مختزنة كامنة كانت تحتاج، منذ عهد بعيد، لأن تخرج إلى حيز الفعل، ولأن تعبر عن الرغبة فى الاختلاف، أحد الشروط الأساسية للوجود ذاته.
**
هل جاوز د. جابر عصفور حدود "الحقيقة" عندما قال إن العصر الحديث أصبح "زمن الرواية"؟
ألم يكن مستندًا فى قوله هذا إلى معيار الاستقبال، وربما إلى "أرقام التوزيع" (وهى أرقام تقريبية دائما عندنا، طبعا؛ إذ نحن نعرف ما نعرفه عن غياب الإحصاءات، أو على الأقل عن عدم دقتها، فى ثقافتنا وفى حياتنا كلها)؟. وبعد سنوات، فيما بعد الهدوء النسبى لبعض غبار المعركة، سيقول د. جابر عصفور فى حوار له مع الأستاذ محمد صلاح العزب، مفسرا ما قاده إلى استنتاج مقولته هذه: "إنني في وقت من الأوقات وجدت أن معظم قراءاتي في الرواية، وأنني لا أستطيع متابعة كل هذا الكم من الروايات التي تصدرها دور النشر، ثم حصدت أسماء الفائزين بنوبل علي مستوي العالم فوجدت أن معظمهم روائيون، ثم سألت أصحاب ومديري دور النشر، فقالوا إن دواوين فطاحل الشعراء أو من يطلقون هذا على أنفسهم لا تبيع 100 نسخة، بينما الروايات تصدر وتنفد في وقت قصير، كل هذا جعلني أقول إننا في زمن الرواية".
ثم ألم يكن د. جابر مستندا إلى ملاحظة تزايد أو تنامى التجارب الإبداعية التى أفادت وتفيد من اتساع الإمكانات الفنية للنوع الروائى، من جهة، وملاحظة التلاحق والتسارع فى تغيرات الواقع المتباينة، من جهة أخرى، وهى الحقيقة التى أومأ إليها فى كتابه (زمن الرواية) بتأكيده "قدرة الرواية على التقاط الأنغام المتباعدة، المتنافرة، متغايرة الخواص، لإيقاع عصرنا"؟ 
**
رغم هذا الاستناد إلى حقائق راسخة فى ظاهرة ملحوظة باتت قائمة، واضحة للجميع، فى الواقع الأدبى، فإن الأسباب كانت كثيرة للحدة، وربما الاحتداد، فى ردود الفعل على هذا التوصيف النقدى الذى صاغه د. جابر عصفور لهذه الظاهرة، أى لموقع الرواية فى الوضع الأدبى العربى الجديد.
ربما رأى بعض الشعراء فى هذا التوصيف نفيا لفنهم؛ لنتاجهم ولعملهم؛ بل ربما رأى فيه بعضهم فيه نفيا لوجودهم ذاته، وربما رأى بعض أصحاب ذائقة أدبية بعينها فى هذا التوصيف تهديدا لنوع خاص من الجمال تربوا على أنه سمة "الأدب الرفيع" الذى كان الشعر، دائما، أسمى الفنون وأقدرها على تمثيله والتعبير عنه. 
وربما رأى فى هذا التوصيف بعض المثقفين المستمسكين بأهداب التراث العربى القديم اقتحاما لقلاعهم التاريخية الحصينة من قبل فن "وافد"، مستحدث، قد يلوح للعين المغالية فى "الوطنية" وجها من وجوه "ثقافة غازية"، أو يلوح جزءا من "أدب الغزاة" المستعمرين؛ هل كان هؤلاء وهؤلاء وأولئك محقين فى ردود أفعالهم؟ هل كانوا غير محقين؟ "نعم" الإجابة على السؤالين هى: "نعم".
فنفي الشعر تهديد ماثل من قبل فن الرواية الجديد، ولكن هذا النفى لا يمس سوى بعض تجارب الشعر التى باتت "اجترارية" تقليدية، وغدا من الواجب عليها أن توسع من آفاقها، وأن تجدد تناولاتها وأدواتها وطرائق اتصالها بالواقع المتغير وبالعالم الحديث كله، بما يمكن أن يلاحق ـ إبداعيا ـ هذا التغير وبما يمكن أن يخلق لغة جديدة للتخاطب الحى فى سياق تجاوز السياقات القديمة.
ونفي بعض الشعراء تهديد ماثل ما لم يستكشفوا سبلا "إبداعية"، خلاقة حقا، قادرة على أن تلتقط روح العالم المتجدد (وقد توصل الشعراء الذين نجحوا فى ذلك إلى صياغة طرائق لعلاقتهم بالعالم، ولتعبيرهم عنه، مختلفة جذريا عن الطرائق القديمة، فكان اعتماد لغة "المشهد البصرى" جزءا من مغامرة بعضهم الشعرية، وكان فى هذا نوع من التجاوب مع العالم الحديث الذى تأسس، فيما تأسس، على مجموعة من السمات المستحدثة، منها اعتماد الثقافة البصرية فى مقابل الثقافة السمعية التى هيمنت لعصور طويلة سابقة).
ونفي الذائقة القديمة تهديد ماثل أيضا، ولكن هذا النفي لا يقذف بالجميع إلى هاوية وخواء كاملين؛ حيث تختفى كل ذائقة جمالية، وإنما يقود هذا النفى إلى بلورة ذائقة أخرى جديدة، قادرة على أن تستوعب الذائقة القديمة وتوسع من حدودها ومداها. 
فالذائقة التى ترسخت خلال تلقى شكل بعينه من الشعر العربى (الذى ظل غنائيا فى أغلبه) يمكن أن تغتني بجماليات أخرى، أكثر رحابة، ترتبط بفن الرواية التى تشكلت وتنامت، تاريخيا، عبر استيعابها أو امتصاصها أنواعا أدبية وغير أدبية شتى، والتى بلورت شكلا أدبيا شديد المرونة، لا يكف عن التغير والتحول، يمكنه أن يحتوى أية مادة أدبية وغير أدبية، ويستطيع أن يعبر فى تناولاته عن عالم شديد التعقيد والتركيب، ومن هنا انطوى فن الرواية على إمكانات لا حصر لها لاحتواء جماليات فنون متنوعة، وهضمها وتمثلها، ومن هذه الفنون الشعر نفسه (ولتكن رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ ـ الذى بات الآن هدفا لتدريب بعض الكتاب الشبان على التصويب والطعن! ـ مثالا واحدا كافيا على هذا الملمح الأخير).
واقتحام التراث القديم بنوع أدبى جديد حقيقة ماثلة، ولكن لا يصح النظر إليها من موقع الإحساس بالتهديد، أو من هاجس "الغزو"، أو انطلاقا من الامتلاء ـ إلى حد التخمة ـ بالإيمان المطلق بالمسافة الراسخة الثابتة، الفاصلة على كل المستويات، بين "الذات" و"الآخر". 
والحقيقة إن فن الرواية لم يكن نتاجا غربيا حديثا خالصا كما شاع فى كثير من التصورات عن هذا الفن، ومفهوم أن "الرواية ملحمة البرجوازية الحديثة"، الذى انبنى على تصور أن "الرواية"، وريثة "الملحمة"، وأنها قد ارتبطت بالحقبة "الرأسمالية" فى العصر الحديث (وهو المفهوم الذى استهله هيجل، وروج له جورج لوكاتش ـ الذى كتب كتابا بعنوان يتمثل حرفيا مفردات هذه المفهوم: "الرواية كملحمة البرجوازية" ـ ثم تبناه ف. ف. كوزينوف فى كتابه "الرواية ملحمة العصر الحديث"، وهو أحد أقسام كتاب أكبر له).. هذا المفهوم ليس دقيقا ولا صائبا تماما، فضلا عن أنه يمكن أن يكون مضللا فى جانب من جوانبه (وهو من هذه الناحية يضاف إلى تضليلات أخرى قاد إليها التسليم الكامل بأفكار جورج لوكاتش من قبل بعض نقادنا، ولكن هذا موضوع آخر). 
كانت هذه التصورات، فيما كانت، جزءا من بعض محاولات "التحقيب" ـ أى وضع مخطط للحقب أو للمراحل الأساسية ـ للنوع الروائى، ولم تخل هذه المحاولات من تبسيط جعلها تغفل تاريخا للرواية سابقا على وجود الرأسمالية وعلى وجود العصر الحديث كله، فقد كانت هناك أعمال روائية عرفها التراث اليونانى القديم (ولنراجع كتاب محمد حسن وهبة: "الرواية اليونانية القديمة"، الذى صدر عن مكتبة سعيد رأفت بالقاهرة عام 1986)، وقد كانت هناك أيضا، قبل ذلك، أعمال روائية عرفها الأدب المصرى القديم، وهى روايات قصيرة تنتمى إلى الشكل الذى سوف يعاد الاهتمام به بعد قرون طويلة جدا، وسوف يكتب له الانتشار فى العصر الحديث تحت مسمى "النوفيلا" Novella (ولنراجع فى هذا كتاب جوستاف لوفيفر [ترجمة النصوص من الهيروغليفية إلى الفرنسية]: "روايات وقصص مصرية"، الذى ترجمه إلى العربية د. أنور عبد العزيز، وصدر عن سلسلة الألف كتاب الأولى، العدد 66، مكتبة مصر بالقاهرة)، ولكن هذه الأعمال، هنا وهناك، تم تجاهلها وكأنها لم تكن! 
**
كانت هناك، إذن، أزمنة قديمة جدا عرفت فن الرواية وعرفها فن الرواية، تمتد إلى عصر الأدب اليونانى القديم وقبله إلى بعض فترات من تاريخ المصريين القدماء، وإن لم تكن الرواية النوع الأهم ولا الأكثر انتشارا فى تلك الأزمنة.
ثم كانت هناك أزمنة لاحقة عرفت عددا من "أنواع" الرواية (رواية المغامرات، رواية الرحلة أو السفر، رواية "البيكاريسك" ـ أو "الصعاليك"، رواية "التكوين".. إلخ)، ثم كان صعود التجارب الروائية الأساسية الكبرى المعروفة فى الأدب الغربى خلال العصور الحديثة: الرواية الإنجليزية، الرواية الفرنسية، الرواية الروسية.. إلخ.
وطبعا كان الصعود الأكبر لتلك الرواية الغربية مرتبطا بما بعد اختراع المطبعة، وبالصحف التى قامت بدور كبير فى نشر الروايات المسلسلة، وبالثورة الصناعية التى وفرت لـ"الجمهور القارئ" حيزا كبيرا من الوقت المتاح للقراءة (خصوصا لجمهور النساء الذى كان فى تلك الفترة المتلقى الأول الأكبر للرواية، وقد استطاعت الآلات أن تنجز بسرعة أعمال التطريز التى كانت تقوم بها النساء، مما أتاح لهن أوقات فراغ طويلة، قامت قراءة الروايات بملئها)، وعربيا، كان هناك زمن لصعود الرواية منذ فترة الأربعينيات بوجه خاص، ثم كان هناك زمن ازدهار الرواية العربية ابتداء، ربما، من فترة الستينيات وما تلاها، وصولا إلى التسعينيات التى أطلق خلالها د. جابر عصفور مقولته (ورأى فيها أن زمن الرواية يبدأ من فترة السبعينيات).
ما الذى يمكن أن يقال، بعد، إذن، فى إنكار "زمن الرواية"؟
وما الذى يمكن أن يقال، إذن، بعد، فى تجاهل "أزمنتها"؟!   

مراجعة. حسين محمد .. الاحد 16 – 1  - 2022

أشرف

نشر في مجة الهلال عدد فبراير 2022

الاكثر قراءة