السبت 23 نوفمبر 2024

كنوزنا

جابر عصفور النّاقد التنويريّ – قراءة في سيرته (زمن جميل مضى)

  • 11-2-2022 | 20:24

د. عبد الرحمن الرشيد

طباعة
  • د. عبد الرحمن الرشيد

لعلّ أكثر صفة ارتبطت بالدكتور جابر عصفور واتسم بها حضوره الثقافي وإسهامه المعرفي هي صفة النّاقد التنويري، ويأتي جابر عصفور في هذا السياق امتداداً لتاريخ طويل من مسيرة الوعي التنويري العربي ومتابعةً لجهود رواده الأوائل منذ بدايات القرن التاسع عشر، فقد تشكّل وعيُه الثقافيّ مع اطّلاعه العميق على الفكر التنويري العربي منذ بداياته وتعرّفِه على أبرز أعلامه منذ الطهطاوي حتى طه حسين الذي سيظلّ يلهم أفكار عصفور ومواقفه ورؤاه فيما بعد، وانعكس ذلك كله على دوره النشط في الدّفاع عن قضايا التّنوير من زاوية تخصصه في النقد الأدبي.

   والمتابع لحياة جابر عصفور يلحظ أنّ حياته الفكرية والثقافية كانت مُنصبّةَ الاهتمام على مجالين تتوّزع عليهما معظم كتاباته ودراساته، المجال الأول هو الدّفاع عن قضايا التّنوير كالحرية والعقلانية والمساواة والدولة المدنية ومقاومة التعصب والإرهاب الفكريّ، أما المجال الآخر فهو النّقد الأدبي وهو تخصصه الأكاديمي الذي برع فيه في العصر الحديث وأصبح من أبرز أعلامه، وهذان المجالان امتزجا امتزاجاً شديداً في شخصيّته فأصبح عصفور مثالاً للنّاقد التنويريّ الذي ينطلق من فهم الواقع فهماً عميقاً ويتخذُ من أدوات النّقد الأدبيّ وقضاياه مجالاً لتأكيد دور الفكر التنويريّ الذي لا ينمو النقد إلا في أجوائه.  
    لقد حدّدت كثير من الظروف التي مرّ بها جابر عصفور طبيعة تشكيله الفكري والثّقافيّ، وتدخّلت عوامل النشأة الأولى في بناء شخصيّته التّنويريّة وصياغةِ مساره الفكريّ، وربما يكون كتاب (زمن جميل مضى) هو أبرز الكتب التي تُعين على تلمّسِ أَثَرِ هذه العوامل التي ساهمتْ في نشأته وتطوّره الفكريّ، ففي هذا الكتاب يقدّم عصفور صوراً قلميّةً تسترجعُ بعضَ ما مضى كما يقول، وقد كان جابر عصفور دقيقاً في عدم وصفها بالسيرة الذاتية، نظراً لأنها لا تحفل كثيراً بتتبع مسار حياة الكاتب بدقة، وإنما تتجه إلى العناية بالجانب الثّقافيّ والفكريّ وتطوّره في مراحل النشأة الأولى وما بعدها.  
    لكنّ هذا الكتاب يمكن أن يُعيننا على تلمُّسِ العوامل الأساسيّة التي ساهمت في تشكّل المسار الثّقافيّ والفكريّ لجابر عصفور، والتي تضيء كثيراً من أبعاد شخصيّته التنويريّة، فقد ولد جابر عصفور عام 1944 في مدينة المحلة الكبرى وهي مدينة اشتهرت بصناعة النّسيج، وكانت أُسرته من الطّبقة المتوسّطة حيث يعمل والده في التّجارة، ومن أهم الملامح في تكوينه في طفولته هو طبيعة التدين في أسرته والمجتمع الذي نشأ فيه، فقد أوضح عصفور أنّ أبويه كانا متديّنين معتدلين أقرب إلى التديّن الشعبيّ، حتى أنه سُمّي "جابر" لأنّ والده نذر لوليّ من الأولياء (سيدي جابر) أنّه إذا رزقه الله بمولود ذكر فسيطلق عليه اسم هذا الشيخ.
    كما يشير جابر عصفور إلى ارتفاع الحسِّ الدّيني في المدينة التي عاش فيها، والإجلال الذي يُقابَل به الفقهاء وأئمة المساجد، وكثرة الموالد المنتشرة والتي كان يزورها دائما بصحبة أبيه وأمّه، ولكن رغم ذلك لم يكن الوسط العائليّ والاجتماعيّ الذي عاش فيه جابر عصفور متطرّفاً في إيمانه بهذه المعتقدات ولا متعصّباً دينيّاً، فقد ذكر أَنّه إلى جانب زيارته إلى الموالد الإسلامية كان يرافق والدته أيضاً إلى موالد خاصّة بالأقباط مثل مولد سيدي أبو جورج، وهذا يشير بشكل واضح إلى أنّ التّسامح الدّينيّ من الأمور التي ساهمت في تشكيل وعيه التنويريّ بعد ذلك، فقد ارتبط بعلاقاتٍ طيّبة مع الأقباط الذين كانوا بعض جيران الأسرة، أو أصحاب المحال التجارية بجوار أبيه، وقد هيأت له دراسته في مدرسة الأقباط تكوين علاقات أخرى دون أيّ تفرقة، كل ذلك سبب نشوء وعيه المُبكّر بأصل من أصول التفكير التنويري وهو التسامح، وعدم التفرقة بين النّاس على أساسٍ دينيّ، وهو مبدأ أكّدته كذلك ثورة 1919 التي كان من أبرز شعاراتها أنّ الدين لله والوطن للجميع، لذلك يشير جابر عصفور في غير موضع من هذا الكتابِ إلى تأثيرِ هذا الجوّ المُتسامح دينياً في طفولته وفي دراسته، فلم يكن هناك فارق بين المسلمين والأقباط في المدرسة يقول: "لم أفكر يوماً من هو القبطي منهم ولا المسلم، والمؤكد أنهم لم يفكروا في شخصي بوصفي مسلماً أو قبطياً، فلم أرَ تفرقة في معاملة الأساتذة المسلمين والأقباط لنا على الإطلاق". 
   وانعكس هذا الجو الديني المتسامح على الجو الثقافي في طفولته، وعلى مطالعاته وقراءاته الأدبيّة هو وزملاؤه، فلم يكن هناك تفريقٌ على أساسٍ دينيّ بين الأدباء الذين أقبلوا على قراءة إنتاجهم، بل كان اهتمامهم متوجّهاً إلى الجانب الإبداعي يقول على سبيل المثال: "ولم أهتم بأن أمين يوسف غراب أو يوسف الشّارونيّ يفترقان في الدّيانة عن نجيب محفوظ أو على أحمد بكثير ... كلّ ما تعوّدنا عليه، وتربينا عليه سويّاً هو الفارقُ الفنيّ بين كتابة نجيب محفوظ وكتابة أمين يوسف. أما الدّيانة فهي لله".
   كما ركّز كتاب (زمن جميل مضى) على استعراض الكتابات التي ساهمت في تشكيل وعي جابر عصفور الأدبيّ والنّقديّ، فقرأ في صباه كتباً تراثية ككتاب قصص الأنبياء وألف ليلة وليلة، وأقبل إقبالاً شديداً على قراءة الرّوايات والقصص وخصوصاً الرومانسية منها، وأثرت الرّوايات التّاريخية لجرجي زيدان في توجهه الفكري فقد رأى أنّ جرجي زيدان في رواياته "كان حريصاً على تجسيد قيم التّسامح الدّينيّ، والتّسوية بين البشر على أساس مدنيّ يُجاوزُ الدّين، أو لا يتحوّل فيه الدّين إلى عائق للتّمدّن، ولذلك كان التّركيز على دور المثقّف الذي تتجسّد في حضوره مبادئ التّسامح واحترام الاختلاف وحريّة الفكر تركيزاً له دلالته التي ترتبط بوعيه بأهمية الدّولة المدنيّة التي لا تميّز بين مواطنيها على أساس من دينٍ أو عقيدةٍ أو عرقٍ، وأظنه نجح في تسريب هذه القيم إلى وعيي دون أن أنتبه، فقد كان بارعاً في تذويب أفكاره عن الدّولة المدنية التي هي مرادفة للتّمدن في سياقات السّرد والشّخصيّات"، إنّ هذا النص يكشف عن رافد من الرّوافد المُبكرة للمبادئ التّنويرية التي ساهمت في تكوين شخصية جابر عصفور، فقد كان لهذه الأعمال الإبداعية دور بارز في التأكيد على هذه القيم بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
    ولكنّ الكتاب الأبرز الذي أثّر في تكوين جابر عصفور كان كتاب (الأيّام) لطه حسين، حيث كانت قراءة هذا الكتاب تمهيداً لتعلق جابر عصفور بمسار طه حسين الفكريّ يقول في ذلك: "وقد مَسّتني (الأيام) وسحرتني إلى درجة قلبت مجرى حياتي رأساً على عقب ... وكان هذا كافياً لمن كان مثلي، في ذلك الزمن البعيد، لكي أجعل من طه حسين مثالاً أحتذيه، وقُطباً أتعلم من كتبه، وأسعى إلى أن أكون مثله دارساً للأدب العربي بمنهج جديد، ومثقفاً يصل معنى الجامعة بعمليّة تطوير المجتمع وتحديثه، مؤكداً الدور الحيوي للأستاذ الجامعي الذي لا يغلق على نفسه أسوار الجامعة، بل يصلها بالمجتمع خارجها"
   لقد كان تأثيرُ طه حسين على جابر عصفور هو التأثير الأكبر من بين جميع الشخصيات التنويرية التي تعرف إليها في نشأته، وقد ارتبط به منذ صباه وأصبح نموذجاً يسعى إلى أن يكون مثله، فمنذ طفولته كان أبوه يدعو الله أن يكون ابنه مثل طه حسين، ويشير عصفور إلى أنّ هذا الحلم كان وراء اختياره للقسم الأدبي في دراسته وقسم اللغة العربية في جامعة القاهرة بعد ذلك.
    وفي جامعة القاهرة -التي انتسب إليها عصفور- بدأ مرحلة جديدة من الوعي التنويري والنّقديّ، فقد ظلت أفكار طه حسين هي المسيطرة رغم انقطاعه عن التّدريس في الجامعة في تلك الفترة، وكان لأساتذته مثل عبدالعزيز الأهواني وسُهير القلماويّ وغيرهما دور كبير في إشاعة هذه الأفكار، يقول في ذلك: "عندما كنت طالباً في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، كانت تقاليد طه حسين الليبرالية سائدة، ولذلك كان أغلب أساتذتي وأكثرهم شهرة في الحياة الثقافية، يعلموننا حقّ الاختلاف ويزرعون فينا روح الاستقلال الفكري حتى عنهم وأحسبني تعلّمت مبدأ المساءلة من العقلانيين منهم".
    ففي هذا الجو العقلاني بدأ الاتجاه التنويري بالنضوج والتبلور عند جابر عصفور، وهذا ما انعكس على سلوكه حيث اتّسم بروح التّمرد "التّمرد على سلطة الأدب، والتّمرد على قيود العرف والتقاليد الجامدة، والتّمرد على الآراء المحافظة في الأدب الذي تخصّصنا فيه"، لذلك يصف علاقته بأساتذته بعلاقة الاتصال والانفصال "اتّصال يتمثّل في روح التّقليد التي تجعل من طه حسين وتلامذته بعض تكويني ونقطة ابتدائي التي لا تزال ماثلة في الوعي واللا وعي منّي، وتجعل ما أنجزته، بفضل ابتدائهم، محسوباً عليّ حتى لو كان فيه معهم أو عنهم"، وهذا الموقف يُعدُّ حصيلة تمثّله الواعي للقيم التنويريّة والنّقديّة التي تعلّمها من أساتذته.
   وقد ساهمت الأحداث السّياسيّة التي مرّت بها مصر في توجيه أفكار جابر عصفور، وفي تحديد توجهاته السياسية، والمتابع لآرائه يلحظ إيمانه بالمشروع القوميّ العربيّ وإعجابه الشديد بعبدالناصر، هذا الإعجاب الذي يرتدّ إلى أسباب متعدّدة تتمثّل بالإنجازات التي حقّقها عبدالنّاصر لمصر وللوطن العربيّ عموماً، إضافةً إلى دوره في مجّانية التّعليم التي هيّأت الفرصة لجابر عصفور وأجياله أن يكملوا تعليمهم، ويشير عصفور في حادثة يرويها في كتابه (زمن جميل مضى) أن لعبدالناصر الفضل في تعيينه معيداً في الجامعة بعد أن بعث إليه رسالة يحتجّ فيها على عدم تعيينه لخلافات في القسم في تلك الفترة.
   وقد وصف عصفور نفسه بأنه يساريّ معتدل "لا يجد تناقضاً بين هويته الإسلامية والانحياز إلى الأفكار التي تدعو إلى العدل الاجتماعي والحض عليه"، وقد كان هذا التوجه حصيلة الفترة التي قضاها بعد التخرج فهي الفترة التي بدأ يقتحم فيها الأفق اليساري الذي فتحته له النّاصرية، ويعترف عصفور بأن الإنجازات التي حقّقتها الناصرية هي التي دفعته إلى أن يصمّ أذنيه عن الأسئلة الاستنكاريّة، ولكن الشكوك أخذت بالازدياد في نفس عصفور كما يذكر خصوصاً مع قراءته لروايات نجيب محفوظ التي ينتقد فيها الناصرية مثل (ميرامار).
   والحقيقة أنّ هذا التّشكك بالتجربة النّاصرية بعد الإعجاب بها يمكن أن يردّ إلى نمو الوعي التنويري عند جابر عصفور، هذا الوعي الذي لا يمكن أن يرضى بغياب الحريّة التي سادت عهد عبدالناصر رغم ما حقّق من إنجازات، وهذا سبب ما يصفه جابر عصفور بالتضاد العاطفي الذي وقع فيه بسبب تخبطه بين تأييدها ومعاينة سلبياتها. إلّا أن النّكسة عام 67 غيّرت كثيراً من قناعات عصفور وأثّرت تأثيراً كبيراً في أفكاره، ودفعته إلى النّظر العقليّ في جميع القضايا وتنحية الجانب العاطفيّ الذي كان يقرّبه من النّاصريّة، يقول: "وقد أكسبتني مرارة هزيمة 1967 رغبة عارمة في وضع كلّ شيء موضع المُساءلة، ابتداءً من عبدالناصر الذي كنت أرى فيه زعيمنا المنتظر، وانتهاءً بالحسّ الدّيني العميق الذي لا أزال منطوياً عليه"، لذلك بدأ النّقد الصّريح لعبدالنّاصر بالظهور في هذه الفترة مما يشير إلى بداية مرحلة جديدة في فكر عصفور، فهذه الانتقادات تشير إلى انحيازه إلى الفكر التنويريّ مُتمثلاً بأهمّ مقوّماتِه وأُسسه وهي الحرية، حيث كان يرى أن غياب الحريّة هو سبب الهزيمة يقول في ذلك: "لو فتح الرئيس الحرية للناس لعرف ما لم يكن يعرف، وتجنبنا الوقوع في الكارثة".

لقد قدّم جابر عصفور في سيرته "زمن جميل مضى" صورة واضحة المعالم لمسيرته الثقافية والفكرية، وأظهر فيها بدايات تشكلّ أفكاره وإرهاصاتها، والعوامل التي ساهمت في تناميها وتبلورها، حتّى أصبح النّاقد التنويريّ الذي نعرفه.  


نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022

الاكثر قراءة