الأربعاء 15 مايو 2024

حكايات إبراهيم حجازي

نبيل عمر

ملاعب الهلال11-2-2022 | 20:54

نبيل عمر

دخل إبراهيم حجازي القاعة 714 في الدور السابع من مبنى الأهرام، مقر مؤقت لمجلة الأهرام الرياضي قبل أن تبني المؤسسة مبنى جديدا اشترت أرضه بجوار مبناها المعروف، بعد أن توسعت في إصدار جرائد ومجلات جديدة تجاوزت سبعة إصدارات صحفية، وجدنا متحلقين حول صينية نأكل سويا على إحدى المكاتب  بصارة وجبنة قديمة بالطماطم وعجة، صرخ فينا زاعقا: أفسدتم الأهرام، لو عرف إبراهيم نافع سوف يرفدكم ويقفل المجلة.

كنا ستة صحفيين جدد، قدموا من مؤسسات مختلفة، نعاونه في إصدار الأهرام الرياضي، من روزاليوسف والأخبار ووكالة أنباء الشرق الأوسط ومايو، وقررنا التمرد على أكل مطعم الأهرام في الدور الثاني عشر، الذي لم يبق على موعد إغلاقة في وجبة الغداء إلا وقت قصير، وكنا مشغولين جدا ولا نملك ترف ضياع ساعة، فأرسلنا ساعيا إلى سوق التوفيقية جلب لنا تلك الوجبة الشعبية الرائعة.

ثم قال: الأهرام له تقاليد.. ثم ضحك: "ابقوا اطلعوا المطعم على حسابي، وبلاش الحاجات دي هنا".
ذات مرة وجدني جالسا على مكتبي صامتا كمن على رأسه الطير، بعد شهر تقريبا من العمل معه في الأهرام، فاتجه ناحيتي سائلا: ماذا بك.. الهانم ضربتك على الصبح؟
قلت: مشكلة وأفكر في حلها.
قال: إذا لم تكن سرا دعنا نفكر معا.
قلت: اشتريت شقة وآخر قسط 3 آلاف جنيه، كاتب بها شيكات، وطبعا لا أملك حسابا في أي بنك، وليس معي المبلغ، وصاحب العمارة حدد 3 أيام قبل أن يبلغ النيابة.

كنا في فبراير 1990..

قال لي: المبلغ كبير، ولا أملكه.. لكن من هنا لحد 3 أيام يفرجها ربنا.

غادر إبراهيم حجازي مبنى الأهرام وعاد بعد ساعتين أو ثلاثة، وأعطاني ظرفا بالآلاف الثلاثة..

عرفت فيما بعد أنه استلف من مؤسسة صحفية عربية المبلغ، وكان يدير مكتبها في القاهرة.
كنا في حديقة نقابة الصحفيين القديمة، أو مجلس الأنس كما كنا نسميها نحن شباب الصحفيين قبل أن تهدم ويشيَّد مكانها المبني العملاق الحالي بلا حديقة، وكان إبراهيم حجازي عضو مجلس إدارة منتخبا، جاء ناحيتنا، وأخذني من يدي، وقال: هات بطاقتك العائلية ووقع على هذه الأوراق.

سألته: ما هذا؟

قال: لازم نعمل للصحفيين نادي نهري على النيل، هل يعقل ألا يكون للصحفيين ناد خاص؟، وجدنا المكان على شارع البحر الأعظم، بعد كوبري عباس، وأخذنا موافقة مبدئية، ونجمع الآن 50 مؤسسا لتأسيس النادي وإشهاره، وقد قبل الأستاذ محمود السعدني أن يكون رئيس مجلس الإدارة.

وبالفعل خلال أسابيع قليلة كان النادي قد ظهر من العدم، هو مع وزارة الشباب والإدارة من ناحية، والكاتب الكبير محمود السعدني مع الأستاذ إبراهيم نافع نقيب الصحفيين وقتها من ناحية أخرى يتفاوضان مع الدكتور يوسف والي وزير الزراعة التي تمتلك بصفتها الحكومية الأرض، وحصلا على تخصيصها وبشروط مناسبة جدا لنقابة محدودة الموارد.

وأشرف إبراهيم حجازي بنفسه على كل صغيرة وكبيرة، كأنه يبني ناديا خاصا به، يتابع العمل ويوميا، ويجري اتصالات مع كل أجهزة المحافظة والوزارات المختلفة إذا ما حدث ما يعطل البناء، وتمكن الأستاذ السعدني من جلب سفينة من هيئة قناة السويس هدية للنادي.
سقط زميل وهو جالس في نقابة الصحفيين إثر أزمة قلبية، التف حوله الزملاء، هيصه وضجيج وقلق، ببساطته المعهودة أسرع إبراهيم من مكتبه، علا صوته: هواء هواء..دعوه يتنفس ولا تحيطونه بهذا الشكل، وفي ثوان حمله مع البعض إلى سيارته، وبسرعة مدهشة كان على باب مسشتفي شهير على كورنيش المعادي، ومنه إلى غرفة العناية المركزة، وظل معه ساعات إلى أن استقرت حالته، وقال له الطبيب ذائع الصيت الأستاذ في تخصصه، والذي استدعاه بنفسه من عيادته: الحمد لله خفيفة، اطمئن..يوم أو يومان على الأكثر ويكمل علاجه في حجرة عادية.
إبراهيم حجازي مع زملائه الذين يسقطون فجأة في مهنة متوترة تزيدها الصراعات والتنافس خطورة على الصحة هو الأكثر تواجدا ربما في تاريخ نقابة الصحفيين كلها، كان ملاذا وظهرا، بل أجزم أنه أضفى نوعا من الطمأنينة على كل الصحفيين، بأن وراءهم من يعتني بهم لو حدث لا قدر الله مكروه.. حتى بعد خروجه من عضوية مجلس النقابة، فهو لا يقدر أن يرد طلبا لزميل في شدة مهما كلفه الأمر.
طبيعة الحياة التقلب، فهي لا تمضي على خطوط مستقيمة ولا تعرف قضبانا لا تخرج عنها، وقد حدث أن تمكن أحد الوشاة أن يفسد العلاقة بيني وبينه في أحد الأيام، وقال له أشياء لم تكن صحيحة، وكان يعمل مع إبراهيم سنوات بدأها في مكتب الجريدة العربية بالقاهرة.. ووصل الأمر إلى حد الاشتباك بالكلام، وإبراهيم هو أكثر الناس طيبة، ولا تتسلل الكراهية إلى قلبه، لكن لا يطيق أن "يخدعه" أحد، وقد قال له هذا الواشي كلاما يقلب دماغ أشد الناس هدوءا.
ونشب خلاف حاد، انتهى بأن غادرت الأهرام الرياضي إلى قسم التحقيقات بالأهرام اليومي.
بعد أسابيع قابلته مصادفة على باب الأسانسير، فمد يده مصافحا، وسألني عن أحوالي في قسم التحقيقات، كأن شيئا لم يقع، صديقان باعدت بينهما الأيام لظروف قاهرة، والتقيا.
بعد شهور اتصل بي تليفونيا، فذهبت إليه سألني: ألا تريد أن تعود للعمل في المجلة التي تعبنا في تأسيسها؟
عبارة آسرة، فيها كثير من التواضع، فهو مؤسسها الأول وصاحب أفكارها وتبويبها وكلنا كنا معاونين لا أكثر.

وعدت، وعلى عشاء في بيته، قال: عرفت أصل الوشاية..
عدنا كما كنا، وفي الحقيقة لم أخسره يوما واحدا، فالمرء لا يستطيع أن يخسر صديقا في نبل إبراهيم حجازي.


نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022