أجواء الحرب الباردة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى على جميع الجبهات، وفى أي لحظة قد تتحول هذه الحرب الباردة إلى حرب ساخنة بسبب ما تدعيه الولايات المتحدة من استعداد روسيا لغزو أوكرانيا.
لم تتوقف تداعيات الحرب الباردة على حشد الجيوش على الحدود في المناطق الملتهبة من أوروبا، امتدت هذه الحرب إلى جبهة الفضائيات والإعلام بشكل عام، نكتشف مع اشتعال الحرب على هذه الجبهة الفضائية الإعلامية أن كل دروس الحرية وحرية تداول المعلومات التي يلقيها علينا الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ليل نهار، فجأة لم يعد لهذه الدروس وجودًا بالكامل عندما تعرضت المصالح ودوائر النفوذ الغربية والسيطرة على الرأي العام للخطر.
قبل أيام أعلنت الهيئة المنظمة لوسائل الإعلام في ألمانيا منع بث محطة "روسيا اليوم" على جميع الأراضي الألمانية ودون أي سابق إنذار وأعلنت الهيئة الألمانية بوضوح أنه لا مجال لوجود أي بث لمحطة روسيا اليوم باللغة الألمانية يوجه للمواطنين الألمان، هل اكتفت ألمانيا بقرار منع البث فقط ؟ الإجابة أن المطاردة الألمانية للمحطة الروسية امتدت للأقمار الصناعية فحرمتها من البث على الأقمار الصناعية الموجهة لها، وامتدت المطاردة والحرب الألمانية إلى مواقع التواصل الاجتماعي.
في اليوم الأول لظهور النسخة الألمانية من محطة "روسيا اليوم" على موقع يوتيوب طلبت السلطات الألمانية من يوتيوب وقف البث فورًا، والغريب أن موقع يوتيوب الذى يرفض دائمًا منع بث أي مواد محرضة أو تدعو للإرهاب وتقدمها شخصيات إرهابية وافق في دقائق على الطلب الألماني وحظر يوتيوب المحطة الروسية الموجهة باللغة الألمانية من على موقعه.
احتج المسئولون بالمحطة الروسية على ما تفعله الحكومة الألمانية أو هيئة تنظيم الإعلام الألماني واختصارًا يطلق عليها "زاك "، كان رد "زاك " جاهزًا أن الرخصة التي تحملها المحطة الروسية غير كافية رغم أنها صادرة من بلد أوروبي وحسب القوانين الأوروبية يسمح للمحطة الروسية بالبث في أي بلد داخل أوروبا من ضمنها ألمانيا، وغير عدم كفاية الرخصة رأت " زاك " أن المحطة الروسية توجه بثها إلى جمهور ألماني والهيئة لا تراه مناسبًا ولن تسمح به ولم تقدم " زاك " أي تفسيرات حول ما هو المناسب وغير المناسب الذى يجب أن تقدمه المحطة الروسية.
علق رئيس نقابة الصحفيين الروس فلاديمير سولوفيف على القرار الألماني بأن ألمانيا تفعل كل شيء من أجل حظر وجهة نظر بديلة، أما محطة روسيا اليوم فاعتبرت من خلال موقعها الإلكتروني أن القرار الألماني أتخذ لأسباب سياسية محضة.
نتخيل لو قررت دولة خارج المنظومة الأوروبية أو الغربية بصفة عامة اتخاذ قرار مماثل ووقف بث محطة فضائية ترى أنها تقدم محتوى يمس سيادتها أو غير مهني أو يؤثر بالسلب على الرأي العام الداخلي لديها ،هنا سنجد الآلة الدعائية الغربية تشن حربًا على هذه الدولة متهمة إياها بأنها تقتل الحرية و تمنع تداول المعلومات وتحرم المواطن في هذه الدولة من وجهة نظر أخرى، كأن الإعلام الموجه الذى يحمل أجندات سياسية تخدم مصالح ما ويهدف إلى تأليب الرأي العام هو في تقدير المنظومة الغربية يقدم وجهة النظر الأخرى لأنه يتماشى مع السياسات والمصالح الغربية التي تعمل على المساس بسيادة الدول الوطنية.
أمام التعنت الألماني والإصرار على منع المحطة الروسية قررت موسكو اتخاذ إجراءً مماثلا فأعلنت وزارة الخارجية الروسية وقف البث لمحطة "دوتش فيله " الإخبارية الألمانية وإغلاق مكتبها في العاصمة الروسية موسكو، وقالت الخارجية الروسية في بيانها " إن موسكو تنفذ المرحلة الأولى من الإجراءات المتخذة ضد شبكة دوتش فيله والتي تشمل إنهاء البث عبر الأقمار الصناعية وغيره من البث للشبكة التليفزيونية والإذاعية على أراضي الاتحاد الروسي " وقالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بإن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي ــ تتشارك موسكو في المنظمة مع أوروبا ــ وقفت صامتة أمام قرار ألمانيا بحظر بث المحطة الروسية .
احتجت الخارجية الألمانية و محطة دوتش فيله على القرار الروسي وقالت المتحدثة باسم الخارجية الألمانية إن الإجراءات التي اتخذتها موسكو ضد دوتش فيله تفتقر إلى الأساس القانوني، وتمثل عبئًا جديدًا على العلاقات الألمانية الروسية . الغريب في رد المتحدثة باسم الخارجية الألمانية أنها تناست أن القرار الروسي جاء ردًا على منع محطة روسية من البث في ألمانيا ولكن التعليق الأغرب كان من بيتر لمبورج المدير العام لمؤسسة دوتش فيله فأعلن احتجاجه على القرار الروسي ووصفه بالعبثي ولا يصدر إلا من أنظمة شمولية، وأن دوتش فيله ستواصل بث تقارير من موسكو حتى لو أغلقوا المكتب وسنزيد من تغطيتنا الإعلامية لشئون موسكو!.
تتناسى هنا الخارجية الألمانية ومدير مؤسسة دوتش فيله أن روسيا دولة لها سيادة ويحق لها منع ما تراه يؤثر على أمنها وبلغ هذا التناسب مداه بأن القرار الروسي لم يكن فعلا بل كان رد فعل على القرار الألماني.
بالتأكيد لم تقف المنظومة الغربية تشاهد ما يحدث بين ألمانيا وروسيا وقررت التدخل ولكن حالة التناسي عند المنظومة الغربية وصلت إلى مرحلة الزهايمر فهي لا ترى إلا القرار الروسي بمنع الدويتش فيله أما منع ألمانيا لبث روسيا اليوم فهو أمر طبيعي، اعتبر المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية أن الخطوة الروسية غير مبررة وغير مقبولة وتطور سيئ وتظهر انتهاك الروس المستمر لحرية واستقلالية الإعلام، وأعلن المتحدث تضامن الاتحاد الأوروبي مع دوتش فيله وموظفيها.
وفق المعايير الغربية المزدوجة فإن إغلاق الدوتش فيله في روسيا هو انتهاك لحرية واستقلالية الإعلام أما قيام ألمانيا بإغلاق محطة روسيا اليوم في برلين فهو قمة الحرية والاستقلالية وكأن ألمانيا دولة كاملة السيادة يحق لها فعل ما تشاء، أما روسيا فدولة بلا سيادة يجب أن تخضع لتعليمات المندوب السامي للاتحاد الأوروبي وتترك المحطات الفضائية الأجنبية تعمل على أراضيها دون رقيب أو حسيب رغم أن كل ما فعلته روسيا كان ردًا على القرار الألماني.
لم تعلق أي منظمات حقوقية على القرار الألماني بحظر المحطة الروسية هذه المنظمات التي لا تتوقف ليل نهار عن البكاء على حرية الإعلام المنتهكة في العالم عدا في الغرب، ولكن عندما أصدرت موسكو قرارًا مماثلا للقرار الألماني عادت هذه المنظمات للتباكي على حرية الإعلام التي تنتهك على يد الروس وبالتأكيد لن تخالف تلك المنظمات توجهات الأسياد الغربيين بل هي جزء من اللعبة التي ينفق عليها ملايين الدولارات لأجل تحقيق المصالح الغربية باسم الحرية .
تدخل المنظم الرئيسي للعبة الحريات والاستقلالية من واشنطن بعد أن أدت الجوقة الأوروبية ما عليها وأصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانًا تدين قرار الحكومة الروسية بغلق مكتب محطة الدوتش فيله في موسكو وتعلن تضامنها الكامل مع ألمانيا والمحطة التليفزيونية ولم يتطرق بيان الخارجية الأمريكية للقرار الألماني بإغلاق روسيا اليوم أنها نفس حالة الزهايمر التي أصابت الأوروبيين من قبل.
ردت السفارة الروسية في واشنطن على بيان الخارجية الأمريكية ووصفت البيان بأنه المعتاد من السياسة الأمريكية التي تكيل بمكيالين ونموذج آخر للمعايير المزدوجة وتساءل رد السفارة الروسية أين كانت القيم الديمقراطية العالية لأمريكا عندما حظرت برلين محطة روسيا اليوم؟
لا شك أن كل من المحطتين الروسية والألمانية تخدم سياسات الدول التي تمثلها وكل المحطات التي تمثل دولها تفعل نفس الشيء ومنهم محطة الحرة الأمريكية وهذا طبيعي لأن هذه المحطات يتم تمويلها من الدول، لكن الفرق أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة لا يريد التخلص من النظرة الاستعمارية تجاه العالم فهم فقط من حقهم تحقيق مصالحهم وفرض سياستهم ورؤيتهم على كل الشعوب ويجب ألا يعترض أحد على قرارات المندوب السامي الغربي التي تمس سيادة الدول ومن يعترض تطارده حملات الدعاية السوداء باسم الحريات وحقوق الإنسان لكن تغير موازين القوى الحالي في المجتمع الدولي والاستهلاك المبتذل لمفهوم الحريات وحقوق الإنسان من هذا الغرب الذى لا يريد التخلص من نظرته الاستعمارية تجاه العالم جعل الشعوب تقول له كفى ابتذالا وسخفًا.