الأحد 6 اكتوبر 2024

«نون الفتنة».. قصص قصيرة تحمل رؤى فلسفية عميقة

مقالات21-2-2022 | 16:23

يرى الفيلسوف الألماني "شلنج" أن الفن ليس أمرًا غريبًا عن الفلسفة، وليس آلة لها، بل هو في حقيقة الأمر مصدرها وينبوعها الأول، فلقد انبثقت التأملات الفلسفية المبكرة عند اليونان من روائع الشعر وإبداع الفنانين، ولا شك أن "الإلياذة والأوديسة" تعدان خير دليل على هذا الرأي؛ ولا بد في نظره من أن تعود الفلسفة فتقطع مسيرتها الأولى، أي أن تصدر في عصرنا هذا عن الفن وترتبط به وتتفاعل معه.

وهذه الفلسفة ظهرت بوضوح في المجموعة القصصية "نون الفتنة" للقاص المبدع، محمود عبد الدايم، الصادرة عن دار "إضافة" للنشر والتوزيع، فكل قصة بالمجموعة- التسع عشرة قصة- تلقي الضوء على زاوية معينة للحياة، لا سيما حياة البسطاء، أبطال المواقف الطارئة، التي انكشفت وجوههم في البطولات الهامشية، أي أن القصص تلقي بظلالها للتعبير عن فكرة أزلية، وهي صراع الخير والشر وانتصار الأول وانكسار الأخير وما إلى ذلك، وهي ليست المحاولة الأولى لكاتبها، بل هناك مجموعة قصصية سبقتها بعنوان "خمورجي يروي التاريخ" والتي تنتمي لهذه الفكرة.

في المجموعة القصصية هناك أنماط عدة من البشر، يطلون علينا بقصصهم في زوايا باهتة منعزلة تبدو أنها تهيؤات لكنها مواقف واقعية، ومن كثرة واقعيتها تُفقدهم توازنهم ليروا أنفسهم سكارى أو مجانين أو تائهين، فمنهم نمط لا يرى حقيقته إلا كسكير في البارات، والبعض الآخر حالم ينتظر الأجمل الذي لم يأت بعد، وصنف ثالث لا هم له في الحياة إلا أن يترك "خربشة" بسيطة على جدار حياة لم تمنحه إلا أقل القليل.

محمود عبد الدايم / مؤلف نون الفتنة

 

ففي البارات- كما يقول الكاتب في قصة "انعكاس على زجاج النافذة"- هناك مساحة للتعارف ممتدة لا مكان للصمت، الجميع يأتون بحثا عن غرباء يتحدثون إليهم في لحظات "نصف واعية"، يضحكون بكل ما يمتلكون من قوة تصلح للضحك، ويبكون كما يجب أن يكون البكاء، البارات أحسبها دوما أرضا دافئة تصلح لزراعة حبوب الحكي، الحزن والخيبة.

لكن في قصة "خاتم ميت" يقدم الكاتب البطل المهزوم، المسيطر على الزاوية الرابعة في الحياة، الزاوية المظلمة، التي يتابع منها الزوايا الثلاث الباقية، وهي زوايا - من وجهة نظره - مضيئة، تركها منذ طفولته لأشقائه وأبيه وأمه والبقية الباقية، بعدما أيقن أنه لن يكون مرحبا به فيها، ولهذا عندما تتاح له الفرصة للمرور إليها، فإنه يجر وراءه خيباته وأحلامه المتواضعة، غير أنه سرعان ما يعود وحيدًا في الزاوية المضيئة، حتى تفشل محاولته الوحيدة في التحرك من المكان الذي اختاره منذ البداية. 

أما نص "مجرد تهيئوات" فمن خلاله يميل الكاتب إلى استخدام الرمز هنا للحديث عن التغيرات التي شهدها المجتمع، وحالة اللامبالاة التي أصبحت تحكم الجميع، والاهتمامات الجديدة التي فرضت نفسها على سطح الحياة، وهي أبعد ما تكون عن الحياة. 

في "نِصفُ وجهٍ ونِصفُ عينٍ ورحيل مُكتمِل" يستخدم الكاتب الرمزية في الحديث عن الحياة، الموت، الخفوت، وإن كانت الكتب هنا هي البطل في غالبية أحداث النص، وفى محاولة من الكاتب لاستخدام تقنية "الخطابات" في كتابة النصوص يقدم نص "خطاب لامرأة أحببتها منذ مائة عام تقريبًا" الذي يتحدث فيه عن قصة حب امتدت لأكثر من 30 عامًا، يقرر أن يرسل خطابًا لحبيبته بعدما أخبره الأطباء أن علاجه في الكتابة.. ليقرر أن يكتب إليها.

كما أنه نجح في قصة "سجين" في صناعة الحكاية، عرف متى يضيف الجزء المرعب، ومتى يداعب القلوب، ومتى يضغط جيدا على موضع انسكاب الدموع، ليعود في كل مرة دون أن يخسر شيئا، لأنها مجرد تهيؤات على الدوام كانت مطيعة، حتى إن اصطحب ظله إلى شوارعه المفضلة بـ"وسط البلد بالقاهرة" لتمنحه حديثا دافئا عن جغرافيا العشق فوق كوبري قصر النيل، حتى يلتقط أنفاسه الرحبة في ميدان التحرير قبل أن ينسحب مطرودا منه.

وبينما أتصفح في تهيؤات هؤلاء البشر صفعني الكاتب على وجهي حتى أفيق من غفوتي، ففي قصة "مقعد متحرك يعرف طريقا مختصرا إلى الجنة" يأخذنا في عالمه الثري من خلال حديث مفعم بالحيوية بين بطلين يروي كل منهما حكايته بسخرية لاذعة، يتخللها ضحك يبكي، فيقول المتسول للشباب الذي ساعده "انتو غلابة.. بيني وبينك أنا بضحك عليكم.. بحب نظرة العطف اللي بشوفها في عين كل واحد منكم وهو طالع السلم.. الواحد منكم عاوز يروح الجنة بجنيه حديد".  

في حين عزف الكاتب بألحانه البديعة "سيمفونية الأحذية"، وهو عنوان إحدى قصص المجموعة، ليصف لنا وجوه الناس من خلال أحذيتهم، فالأحذية كما يقول لا تكذب، فخلال رحلاته المتوالية في قطارات المترو اكتسب مهارة قراءة النفوس من خلال إلقاء نظرة عابرة نحو نعل رجل أو كعب امرأة، ليرسم صورة واضحة المعالم عن حياة صاحب هذا الحذاء. 
انتهينا من قراءة "نون الفتنة" لكننا لم ننته من التأمل في المفارقات التي طرحتها عبر عوالم ثرية وشخوص رأيناهم فوق الورق من لحم ودم، بعد أن أخذتهم الدنيا في دورات متتالية ليتحولوا في نهاية المطاف إلى منسيين مهمشين على أطراف تلك الحياة. 

ربما يكون إنتاج الكاتب الصحفي محمود عبد الدايم قليلا، لكنه قاص مبدع يستحق أن نحتفي به، فهو لا يهتم بالنشر بقدر اهتمامه بالمحتوى الذي يخرجه للقراء، يشعر بالمسؤولية أمامهم، بل يرى أنهم يستحقون الاستمتاع أثناء القراءة، بأن تكتمل لذتهم، بأن يرضي شغفهم.