بقلم : مجدي نجيب
فى أواخر مارس عام 1960م عرض فيلم «البنات والصيف» وكانت البطلة أمام عبدالحليم حافظ الفنانة سعاد حسني التي كان يشجع مواهبها وفي نفس العام أخذها معه لسهرة في منزل الكاتب الصحفي مصطفى أمين في حضور كاتب قصة الفيلم إحسان عبدالقدوس ومجموعة من الصحفيين والكتاب وهذا ما أكد نوعاً من العلاقة الحميمة بينهما والتي ستتوج في أقرب وقت بالزواج.
تذكرت أغنية «جواب» التي لحنها كمال الطويل في الفيلم:
أنا عايزك جنبي
تسقيني وتشرب من حبي
ولا نعرف بكرة من إمبارح
ولا دقة قلبك من قلبي
كانت سعاد حسني تواظب علي حضور حفلات عبدالحليم ففي حفل أغسطس 1964 كان يغني أغنيته الجديدة «أحبك»:
ح أقول أحبك
وأعيش أحبك
يا حياة قلبي
كان أثناء غنائه يوجه نظراته في تركيز ملحوظ عليها وقد بكت سعاد حسني في تلك الليلة تأثرا بغنائه وهذا ما جعلني أسأله ذات مغربية وهو يرقب الشمس تسقط هاربة خلف الأشجار.
هل كانت ضمن من أحببت؟!
جاءت الإجابة لشخص يسبح معانداً تيارات وأمواج ذكرياته:
لا أعرف كيف كنت أغير عليها قد لا تصدقني كنت أتجول خلسة في آخر الليل لكي أقوم برصد أرقام السيارات التى تقف أمام مسكنها القريب مني.
قطعت عليه استرساله مباغتاً:
أعرف من خلال زملائي الصحفيين أنك كنت تخاف عليها وهذا بسبب الغيرة لأنك كنت تنزعج من أي كلمة غزل تقال لها!
قال:
لا أنكر....
مباغتا لم أزل بما لدي من معلومات:
سافرت بها في رحلات إلي أغلب الدول مدتها أقل من نصف العام بشهرين و في تلك المدة الطويلة تزوجتما وأنتما خارج الوطن وهذا ما تقوله كل علامات الاستفهام والتعجب التي تطايرت في ذلك الوقت حول رحلتكما الغامضة!
قال متنهداً أو مهدودا من الوجع من تخيله لمشهد مر به:
تزوجتها... ولم أتزوجها؟!
طلبت إعلان زواجى.. ولكن؟
تقمصت دور الصحفي المشاغب الذي يريد الحصول علي أي معلومة لها قيمة.
وما شجعه علي التجاوب معي أنني لم أكن أسجل حوارنا... ولا ممسكا بقلم أو أوراق وهذا ما كان يشجعه علي الاسترسال معي دون انزعاج.
كنت أنا مهتما في معرفة الفواصل ونقط التحول.. والسباحة في حياة من أعرفهم من الفنانين الذين عملت معهم أو أعرفهم وكان لعبدالحليم حافظ منزلة خاصة لأنني أحببته وعشت حالما علي أغانيه قبل أن أقابله... وعشت مثل غيري اللوعة والشجن والرومانسية في كل ما يردده من كلمات الحب في أدائه الحساس.
كانت علاقتي به حكايات مرحلة من حياته التي حاولت فيها إيقاف عقارب ساعة الذكريات لكي يستيقظ بدون دقات وبدون «تكتكة» عقرب الثواني فيسمح لي بدخول عالمه الخاص.. وكأنه كان يعالج نفسه من وجع يطارده ويريد التخلص منه بالثرثرة معي.
بعد رحلة صمت دامت لدقائق قال وكأن قرص شمس الذكريات الساخنة قد أصدر الإشارات إلي مخزن عقله فأصابه بحمي وقتية.
بعد رحلتي الطويلة معها طلبت إعلان زواجي منها..
ولم يكن أمامي سوي صديقي الصحفي حسن إمام عمر والكاتب جليل البنداري لكي يساعداني في إشهار زواجي ليصبح زواجا رسميا من سعاد حسني وقد عرض صديقاي رغبتي إليها..
ولكن كانت المفاجأة التي ذبحت جزءا من كبريائي.
كانت تفضل الاحتفاظ بكل تفاصيل ما حدث بيننا في صندوق ذكرياتها والتي أصرت أنه من الصعوبة أن يفتحه غيرها فيتعرف في يوم ما علي زواجنا السري الذي كنت أحلم بإعلانه!
تذكر عبدالحليم فيلم «البنات والصيف» وأغنية «راح» التي كتبها الشاعر مرسي جميل عزيز.. ولحنها الموسيقار كمال الطويل:
راح .. راح .. راح
خد قلبي ... وراح
خد أملي وراح
خد نور أحلامي
خد من أيامي
كل الأفراح .. وراح
وكأنه كان يسترجع وجعه السريالي المفاجئ:
من دمعة ندم.. من حرقة ألم.. من صرخة جريح.. من قلب انظلم.. بعتب علي اللي خان.. بعتب عليك يازمان..
نهاية الوجع!
بصيت لقيتني
لوحدي غريب
بقول ياليل
أنا كان ليا حبيب
خد أملي وراح
خد قلبي وراح
وراح .. وراح .. وراح
ولكن سعاد حسني التي كانت قد داوته من جراح مرحلة البداية.
كانت هي نفسها التي أوقعته في فخ التساؤل عن معني وقيمة الحب في حياة الإنسان؟!
عندما غني لمحبوبته:
بأمر الحب .. افتح للهوي وسلم!
لا ينكر عبدالحليم حافظ أن سعاد حسني ضحت بحبها من أجل مستقبله لأنها كانت تري أن الارتباط به سوف يقيم حواجز من الأسلاك الشائكة في طريق مستقبله.. وسوف تفجر الألغام في معجباته من النساء.. ولن يستمر زواجهما ولو أعلنه كان سيتحول إلي إنقاض بين المعجبين به!
عبدالحليم يضع عينيه في رهان علي المستقبل.. مستقبله الفني الذي قطع فيه شوطاً لا بأس به.. أما سعاد حسني فكانت لا تزال البنت الذكية التي أدركت قواعد اللعبة فانكمشت داخل شرنقة حبها له.
أما هو فقد كان قد أطلق أشرعة مسيرته للرياح للوصول إلي مبتغاه لأنه كان قد أدرك كيف ينجح ويحافظ علي هذا النجاح.
في عام 1961 حاول تطبيق هذه النظرية الخاصة به من خلال اختيار «زبيدة ثروت» لكي تلعب أمامه بطولة فيلم «يوم من عمري».
أنه بذلك يحاول انتشال بقاياه من الهزيمة العاطفية التي لحقت به فأوقعته في شباك اللا مبالاة بما قد يروح أو ما تجيء به الأيام!!
كانت الممثلة زبيدة ثروت جميلة بكل مقاييس عصرها مع ملاحظة الاختلاف الأنثوي بينها وبين سعاد!!
الرعب من الماضي... والحاضر!!
غني بعد فيلمه مع سعاد حسني ما يوجع القلب وكان في فيلم «يوم من عمري» الذي أخرجه عاطف سالم وعرض في النصف الأخير من مارس 1961.
وكان هذا الفيلم يحاول أن يداري وجعه باللعب والضحك والجد والحب.
حب الدنيا.. تلقي الدنيا
فرحة كبيرة في حب كبير
ضحك شوية .. لعب شوية
جد شوية .. وحب كتير
عيش أيامك... عيش علي طول
خلي شبابك عمره يطول
أفرح .. أرقص .. غني
قد ما تقدر .. عيش
دي اللحظة اللي تعدي
بتروح .. ما تجيش
كان عبدالحليم حافظ قد قرر الدخول في لعبة المتناقضات فنسي قلبه وتفرغ للحب الذي يريده والذي لا يكون بمثابة موانع لعبوره إلي ما يريد حتي لو كان السير في جنازة من يحبه وتقديم واجب العزاء علي روحه ببعض ما يقدمه لنا من غناء.
فهم اللعبة جيداً...
وعرف كيف يتداوي من وجعه بإلحاق الوجع بالآخرين.
جنون الحب!!
كانت الليلة عامرة باستفزازي له لكي أعرف ولم يكن هذا من أجل النشر ولكنه كان من أجل معرفة الحقيقة.
وكأنه يتبادل الندم مع خواطره.. وأفكاره ومحاولاته في نسيانها واخفائها من ذاكرته قال:
كانت سعاد بهذه التضحية التي قدمتها برفضي حفاظا علي جمهوري الذي كان تعرف تماما أنه سوف يبتعد عني لو أعلنت زواجي منها؟!
لا ينكر عبدالحليم أن العلاقة السرية بينه وبين سعاد حسني استمرت ولكن قلبها كانت تأكله الحيرة والدهشة ولم يحاول إدخال الوسطاء من الاصدقاء بينهما في حكاية تخصهما فقط.
كانت سعاد تحلم مثل فتيات عصرها بالفارس الذي يجئ معتمدا علي شجاعة الاعتراف المباشر وأخذ الحبيبة بقوة إيمانه وحبه لها.
هو خدشته علامات الحب من قبل فهددته في مستقبله كفنان لذلك أصبح عفريته المرعب الاعتراف بما في داخله لأنه فضل اختيار مستقبله الفني والتضحية بالقلب وإن دار لمن يحبه في محاولة للنسيان.
المرض بالحب
كانت الفتاة الرومانسية سعاد حسني التي نشاهدها في السينما تحلم بمن يعلن أنه حبيبها أمام العالم فهي تتصور أنها ستكون أروع قصص الحب إن ما أصاب سعاد من كارثة حطت عليها كالصاعقة - ببدايات مرضها- كانت من مخزونات صندوق ذكرياتها الذي فاض بالوجع.
وهي من دون أن تدري
تم ذبح مشاعرها...
وهي التي ساعدت بعد ذلك في نشر عظام جسدها الجميل واطفاء ابتسامة كانت بلا حدود وهي تحاول التجمل بكل أمور وظواهر الحياة الطبيعية ولكن عبدالحليم العاشق لمستقبله قبل العطف علي قلبه الموجوع كان قد قرر.. واختار ما يريده..
أما هي.. فقد فضلت التضحية من أحل حبيبها ومن أجل جميع عشاق فنه ولم يعد أمامها من فرط إحباطها - سوي أن تغلق الباب علي قصتها مع من يحب نفسه وفنه أكثر منها.
ولجأت إلي من قد يحاول تضميد جراحها فكان زواجها من المصور السينمائي صلاح كريم ذلك الزواج الذي لم يكن له من العمر ما يذكر بالأيام أو السنوات لأن المواجهة المخيفة التي أرعبت سعاد أنها كانت تحاول الهروب من تقلبات طقس القلوب العاطفي فلم تتحمل وكانت تردد دائما الأغنية التي لحنها محمد عبدالوهاب من كلمات السكندري محمد علي مهدي:
فوق الشوق مشاني زماني
قاللي تعالي نروح للحب
بعد سنين قالي أرجع تاني
هاتعيش فيه مجروح القلب
اللي مشيته رجعت أمشيه
داللي قاسيته رجعت أقاسيه
فوق الشوق
فصل من كتاب صندوق الموسيقي