عندما تتحدث الدبلوماسية المصرية ينطلق حديثها من مواقف راسخة ثابتة لا تعتريها الأهواء ولا تعرقلها مصلحة هنا أو هناك هكذا تلقيت تصويت مصر في الأمم المتحدة ضد العملية الروسية في أوكرانيا حيث جاء بيان مندوب مصر بمثابة صرخة تستنهض الضمير أكثر من كونها رفضا لما يجري على الأرض فما عملت مصر يوما بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة بل تسير مواقف مصر في نسق بديع عجز عن التمسك به أو الالتفات إليه المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الذي خرج عن السياق - تحت وطأة فزعه - في التعاطي مع الأزمة وهدم دون قصد منه شرعية دولية كان يستخدمها يوما في كل تدخلاته حول العالم.
لم يكن تصويت مصر انحيازا لطرف ضد آخر بل كان وثيقة رفض للعمل خارج الإطار الأممي ثم إضفاء الشرعية عليه ..كان بيان مصر صحية انتباه مدوية تنذر الجميع بخطورة العمل منفردا بعيدا عن ميثاق الأمم المتحدة وكانت إدانتها للعمل الروسي خطوة واجبة التنفيذ لسرعة اتاحة المساحة لعمل دبلوماسي ينهي الأزمة التي تعصف بأمن عالمي بات على المحك.
صوتت مصر لصالح مرض أصاب المجتمع الدولي حين تناسى مسسبات الأزمة وانطلق يصرخ من ويلاتها وكان حريا بالجميع دراسة أسباب الصراع للتعامل معها بشكل يوصلنا إلى حل له وليس مجرد رغبة لحظية تريد إظهار العالم في حالة احتشاد ليس حقيقيا ضد روسيا بعد أن تقطعت أسبابهم على الأرض لوقف الروس.
وذّكر بيان مصر الجميع بخطورة فرض العقوبات خارج إطار آليات النظام الدولي متعدد الأطراف وهي خبرة اكتسبتها الدبلوماسية المصرية من عملها طويلا في ملفات متشابكة في محيطها الإقليمي حتمت عليها بما رأته من تداعيات التحرك بمعزل عن آليات النظام الدولي من زيادة تعقيد الأمر والوصول إلى منطقة اللاعودة التي يخرج معها الجميع خاسرين.
ذكرت مصر الجميع بمسئولياتهم عن العنصرية وسياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع المقيمين في أوكرانيا حيث لم تتح فرص متكافئة للجميع للنزوح بأمان وهو ما كان يدعو إليه المجتمع الدولي بل ويضغط به على دول منطقة الشرق الأوسط التي أثخنت بملايين اللاجئين لم يعرهم المجتمع الدولي يوما أي اهتمام متخليا عن مسئوليته في إحداث هذه الأزمة الإنسانية وكلنا نرى ونسمع يوميا مرارة عيش تحملها لاجئون لم يكن لهم في النزاع ناقة ولا جملا في العراق وليبيا واليمن وغيرها.
حذرت مصر العالم من الإفراط في تبني وفرض عقوبات اقتصادية لن تتأثر بها روسيا وحدها خاصة وأن العالم الذي بات قرية صغيرة مازال يتعافى من آثار جائحة كورونا التي أصابت الاقتصاد العالمي بالجمود والشلل ما أسفر عن موجة تضخمية هائلة وارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع لاشك سيؤرق الملايين عبر العالم .
وكانت النقطة الأهم والأبرز في بيان مصر الذي أعده تحديثا لميثاق الأمم المتحدة ومحاولة صادقة لتجديد عهد الموقعين عليه بضرورة احترامه وإنفاذه ألا وهي أن ما يحدث يسقط مصداقية بل يدمر فاعلية وقدرة العمل الدولي في مواجهة تحديات مماثلة بذات المعايير فلماذا نرى اليوم العالم يتحرك سريعا وفي زخم كبير بينما نراه متكاسلا غاضضا الطرف في التعامل مع أزمات مماثلة من محاولات فرض الأمر الواقع بالقوة أو تغيير الأنظمة بالقوة كما حدث في فلسطين والعراق وليبيا وغير ذلك من محاولات فرض الوصاية التي يمارسها النظام الدولي في غياب العدالة وسط تمييز مقيت وهو ما يدفع الجميع إلى العودة إلى منطق الغاب في الحصول على الحقوق وهو خطر عظيم لا تتحمله شعوب الأرض.
إن تصويت مصر الأخير كان كاشفا لما تحمله مصر من شجون حول مسار العمل في يالنظام الدولي وكان نصيحة مخلص أرجو أن يكون طرفا النزاع في أوكرانيا - واقصد روسيا من ناحية والمعسكر الغربي من ناحية أخرى - على استعداد لسماعها ليعقلوا ما تحمله من معان بل وروشتة لعلاج أي أزمات مستقبلية وإن كنت أشك في ذلك بعدما انفرط عقد الشرعية الدولية التي باتت اليوم ذكرى بعد أن تجاوزها الجميع.
أما أهل الشر ومن لف لفهم في توصيف بيان مصر بأوصاف أخرى توافق أجندتهم الراغبة في الطعن والتشويه والوسم بالتبعية فأقول لهؤلاء ليس ذلك بمستغرب عليكم فقد بات جليا واضحا أنكم لم تكونوا تدركون واقعكم حين تصديتم للعمل العام فكيف بقدرتكم على استيعاب مستقبلكم والجدل معكم بات بلاقيمة بل عبث ممقوت.