هل كان الرئيس جمال عبد الناصر يكره الشاعر العروبي الكبير نزار قباني، خاصة بعد أن أصدر ديوانه الشهير "هوامش على دفتر النكسة" الذي تضمن قصيدتيه "الممثلون والاستجواب" عن مهزلة حرب 1967 الذي دخل جميع العواصم العربية ولكنه صودر في مصر في زمن عبد الناصر بسبب الانتقادات الساخنة التي كالها وكتبها نزار قباني بحدة وجراءة صادمة وصارمة للرئيس عبد الناصر شخصيًا بعد الهزيمة العسكرية المريرة في حرب 5 يونيو.
أبدًا.. لم يكن عبد الناصر يحمل في داخله أي مشاعر كراهية للشاعر الكبير نزار قباني.. سوف يسألني حتما أحدكم ما دليلك علي ما تقول.. وأقول نعم لدي الدليل.. دليلي ما قاله الأستاذ هيكل للروائي الكبير يوسف القعيد في كتابه "محمد حسنين هيكل يتذكر.. عبد الناصر والمثقفون والثقافة" الذي أصدرته الهيئة العامة للكتاب عام 2013.
وحسبما كشف الأستاذ لمؤلف الكتاب فإن عبد الناصر كان، على العكس تمامًا، يقرأ كثيرًا لنزار من قبل حتى أن يصدر بعد هزيمة 5 يونيو ديوانه الأشهر "هوامش على دفتر النكسة".
حكى الأستاذ هيكل قصة طويلة ظلت لفترة طويلة مجهولة لم يعرفها أحد عن علاقة الرئيس عبد الناصر والشاعر نزار قباني.. قال الأستاذ لتلميذه القعيد: "عندما قامت الوحدة المصرية / السورية في فبراير 1958 كان نزار موجودًا في السفارة السورية في العاصمة الصينية بكين.. وكان يولول.. وأرسل لي نزار -هيكل يروي- خطابًا طويلًا في مارس 1958 يشكو فيه أن الحياة هناك في الصين مغلقة والسماء رمادية يكسوها الثلج الأبيض.. كان نزار في هذه الرسالة يشكو من وضعه والحياة هناك.. كان يتكلم عن الصقيع الذي لا يمكن وصفه ولا يعرفه سوي الذي زار بكين في الشتاء.. بكين أكثر من بشعة في الشتاء.. برد لا يمكن وصفه بالكلمات لمن لم يعش هناك.
يقول الأستاذ للقعيد: قرأت خطاب نزار قباني وكلمت جمال عبد الناصر (هكذا بدون أي ألقاب) عن نزار فقال لي جمال عبد الناصر فورًا وقبل أن أكمل الجملة الأولى: هو فين؟!.. قلت له: في بكين.. وحكيت له أنه أرسل خطابًا لي يشكو فيه من الحياة هناك.. فنقله جمال عبد الناصر من بكين واختار له بنفسه أن يذهب إلي إسبانيا.. وكان تعليقه وهو يبلغ توصيته لوزارة الخارجية: هناك في الأندلس سوف يجد الشاعر الأموي نفسه.. ونفذت التوصية وذهب نزار فعلًا إلى الأندلس.
سأل القعيد أستاذه وأستاذنا: بعد النكسة كتب نزار قصيدتان "الممثلون والاستجواب" وقد نشرهما في ديوانه المصادر في القاهرة "هوامش علي دفتر النكسة".. الهوامش صودرت في مصر في زمن جمال عبد الناصر.. فهل كان وراء هذه المصادرة الشهيرة غضبا كبيرا من جانب عبد الناصر؟!
وأجاب الأستاذ: في أعقاب نكسة 1967 أعطي جمال عبد الناصر في اعتقادي الحق مطلقًا وكاملًا لكل منتقديه، لأنه هو نفسه كان غاضبا بشدة من أحوال كثيرة جدًا، إذا قارنّا الآن ما غضب منه جمال عبد الناصر مما جرى في النكسة قياسًا بما غضب منه الآخرون، نجد أن ما أغضب جمال عبد الناصر كان أكثر من هؤلاء الآخرين.
سأل القعيد أستاذه: هل قرأ عبد الناصر القصيدتين؟ فأجابه هيكل: من المؤكد أنه قرأهما، ومن المؤكد أنه أعجب بهما، وفي الغالب فإن مصادرة ديوان نزار قباني كانت وظيفة أجهزة في الدولة أخذتها الحماسة.
لقد غضب المثقفون والكتاب المصريين والعرب مما جرى في النكسة.. معظمهم لم يعبر عن رأيه وأفكاره.. معظمهم آثر الصمت ولم ينطق أو يتكلم بعد الهزيمة المريرة.. لكن نزار، وحده، عبر عن مشاعره وقال رأيه بصراحة وجرأة فتكشفت حقيقة المثقفون والكتاب والشعراء وتعروا أمام الناس، وقيل وقتها أن شاعرًا غنائيًا كبيرًا (صالح جودت) كان يستشعر خطورة كلمات أغاني نزار المقبلة، فقاد حملة مكارثية رهيبة وشعواء ضد ديوان نزار قباني.. فقامت السلطات المصرية بمصادرته.
انقلبت الدنيا في مصر بالذات وفي معظم بلدان الوطن العربي وخرجت الحملات تكفر وتصادر أشعار نزار خاصة ديوانه الذي آثار عليه غضب معظم الشعراء العرب.. والمصريين علي وجه الخصوص.
وحين شعر نزار قباني بأن الحملات ضده خرجت من نطاق النقد والحوار الحضاري ودخلت نطاق الوشاية الرسمية، قرر الشاعر الكبير أن يتوجه مباشرة إلى الرئيس جمال عبد الناصر.. وبالفعل بعث نزار قباني في 30 أكتوبر1967 رسالة من بيروت مكونة من 3 صفحات فولسكاب.. سأنشر نصها كاملًا وبدون أي حذف في الحلقة المقبلة.